الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الفصل الخامس : في قسم الغنيمة . وفي الحديث : ( كان من قبلنا يضع الغنائم فتأتي نار من السماء تأكلها ) وكانت حراما عليهم ، لما في مسلم قال عليه السلام : ( فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون ) قال ابن يونس : اختلف أصحابه عليه السلام يوم بدر قبل نزول المنع إلا عمر - رضي الله عنه - فعاتبهم الله تعالى بقوله : ( لولا كتاب من الله سبق ) يريد في تحليلها ( لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم ) [ الأنفال 68 ] الآية . ثم تنازعت طائفة غنموها ، وطائفة اتبعوا العدو ، وطائفة أحدقوا بالنبي عليه السلام فنزل : ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) [ الأنفال 1 ] فسلموها له عليه السلام [ ص: 424 ] ببدر ثم نسخ ببدر بقوله تعالى : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) [ الأنفال 41 ] فاختص عليه السلام بالخمس بقوله ( ما لي إلا الخمس والخمس مردود عليكم ) وإلا فظاهر الآية يقتضي أن له السدس ، وفي ( الكتاب ) : الشأن قسم الغنائم وبيعها ببلد الحرب ، وهم أولى برخصها ، وفي ( الجواهر ) : قال محمد : الإمام مخير بين قسمة أعيان الغنائم وأثمانها بحسب المصلحة ، وقال سحنون : إن تعذر البيع قسم الأعيان ، واختار القاضي أبو الوليد قسم الأعيان دون البيع ، قال ابن يونس : روى ابن وهب عن مالك أنه عليه السلام لم يقفل من غزوة أصاب فيها مغنما حتى يقسمها ، ولم يزل الناس على ذلك إلى زمن عمر بن عبد العزيز في البر والبحر ، قال محمد : يقسم كل صنف خمسة أجزاء ، فالوصفاء صنف يقسم وصيفا حتى يفرغوا ، ثم النساء كذلك ثم يجتهد أهل النظر في القسمة ، ثم يفرغ فحيث وقع سهم الإمام أخذه ، ثم يبيع الإمام الأربعة أخماس ، ويقسمها عليهم ، وإن رأى بيع جملة الغنيمة فعل وكتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لسعد بن أبي وقاص حين افتتح العراق : أن اقسم ما جلب الناس إليك من كراع وسلاح أو مال بين من حضر من المسلمين ، واترك الأنهار والأرضين لعمالها ليكون ذلك في أعطيات المسلمين ; لأنك لو قسمتها بين من حضر ما بقي لمن يأتي بعدهم شيء ، وتأول عمر - رضي الله عنه - قول الله تعالى : ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) [ الحشر 10 ] .

                                                                                                                تفاريع أربعة :

                                                                                                                الأول : في ( الكتاب ) : يسهم للفرس سهمان وسهم للفارس ، والراجل [ ص: 425 ] سهم ، وقاله ( ش ) لما في الصحيحين ( أنه عليه السلام جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما ) وقال ( ح ) : له سهمان فقط سهم له وسهم لفرسه ; لما في أبي داود أنه عليه السلام فرض للفارس سهمين وللراجل سهما ) ولأن نفع الفرس وإرهابه للعدو أكثر ، ومؤنته أعظم لاقتيات الفرس بالحشيش ، وما تيسر بخلاف الإنسان ، والجواب عن الأول : منع الصحة سلمنا لكن خبرنا مثبت بلفظه وخبركم ناف بمفهومه ، والمثبت مقدم على النافي ، والمنطوق مقدم على المفهوم ، وعن الثاني : أن السهمين ليسا للفرس بل لكون المقاتل فارسا ، والفارس أفضل من الراجل إجماعا ؛ ولأن الفارس يحتاج خادما لفرسه غالبا فهو في ثلاثة فلم يلزم تفضيل الفرس على الراجل ، ومن له أفراس لا يسهم لغير فرس ، وقاله الأئمة ، وقال أبو يوسف : لفرسين ; لأنه عليه السلام أعطى الزبير لفرسين ، وجوابه : يحتمل أن يكون نفلا وهو جائز ، ولنا : القياس على الثلاثة فإن الإجماع منعقد على ما فوق الاثنين ، وعلى السيوف والرماح بجامع أنها معدة للقتال ، قال ابن يونس ، قال ابن سحنون : يسهم لفرسين ، وجوابه : يحتمل . ورواه ابن وهب .

                                                                                                                الثاني : في ( الجواهر ) : يشترط فيمن يسهم له أن يكون حرا مسلما ذكرا مطيقا للقتال بالبلوغ أو المراهقة فإن فقد العقل في دار الإسلام أو دار الحرب فقولان ، فإن كان يفيق أحيانا بحيث يتأتى منه القتال أسهم له وإلا فلا ، وإذا حضر الكافر القتال بإذن الإمام فأقوال ثالثها : يفرق بين استقلال المسلمين فلا يسهم له ، وبين احتياجهم للمعونة منه فيسهم ، وإن لم يقاتل لم يستحق ، والعبد كالذمي ، وفي الصبي المطيق أقوال ثالثها : التفرقة بين أن يقاتل أم لا ، وإن قاتلت المرأة فقولان ، وإلا فلا ، ومن خرج لشهود الوقعة فمنعه عذر كالضال ، ففي الإسهام له [ ص: 426 ] أقوال ، ثالثها - وهو أشهرها - التفرقة بين ضلاله بعد الإدراب فيسهم له وإلا فلا ، ومن بعثه الأمير في مصلحة المشركين فشغله ذلك عن الشهود أسهم له ، وروي : لا يسهم له ، والأصل في شروط الاستحقاق مبني على شروط الوجوب ، فإن الغنيمة تبع للقتال .

                                                                                                                الثالث : في ( الكتاب ) : والبراذين إذا أجازها الوالي كالخيل ، وقاله ( ش ) و ( ح ) زاد في ( الجلاب ) : الهجن لقرب منفعتها من الخيل ، واشتراط إجازة الوالي لاختلاف المواضع بالسهل ، والعتاق خيل للعرب ، قال المازري : ولم يشترط ابن حبيب إجازة الوالي ، وفسر البراذين بأنها الخيل العظام ، وفسرها غيره بما كان أبوه وأمه نبطيين فإن كانت الأم نبطية والأب عربيا فهجين وبالعكس مطرف ، ومنهم من عكس ، وفي ( الكتاب ) قال : ولا يسهم لبغل ولا حمار ولا بعير لبعد المنفعة ، بل اتفق الناس على أنه لا يسهم للفيل مع أنه أرهب للعدو وأقوى جسما وشجاعة ; لأنه لا يصلح للكر والفر ، وإذا كان القتال في السفن ومعهم الخيل أو في البر وسروا رجالة وتركوا خيلهم فللفارس ثلاثة أسهم ; لأنها معدة للحاجة إليها كما يسهم للراجل ، وإن لم يقاتل ، وإذا خرجت سرية من المعسكر فغنمت أو رد الريح بعض السفن ، أو ضل رجل عن أصحابه ببلد العدو فلم يحضر قتالا شارك العسكر في الغنيمة السرية ، والسفن الراجعة الذاهبة ، والضال أصحابه لطموح نفس الغانم لإعانة غيره بتوقع الاجتماع ، وإن مات في أرض العدو وقبل اللقاء والمغنم فلا سهم له ; لعدم تحقيق السبب ، وكذلك لو مات فرسه ولو شهد هو وفرسه القتال مريضا أو مات أحدهما بعد القتال وقبل الغنيمة أسهم له ، قال ابن يونس : روى أشهب في الفرس المريض لا يسهم له ، قال عبد الملك : الغنيمة تجب بإيجاف فيعطى الفارس والفرس ما يعطى بالمشاهدة ، قال ابن [ ص: 427 ] حبيب وبه أقول ؛ لقوله تعالى : ( فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ) [ الحشر 5 ] فنفيه عنهم لعدم الاستحقاق يدل على سببيته ، ويدل على قول مالك أن الإيجاف إنما هو مقصود القتال فالسبب في الحقيقة إنما هو القتال ، قال صاحب ( البيان ) : في استحقاق السهم أربعة أقوال ، قال عبد الملك : يستحق من كل ما غنم الجيش إلى حين قفوله إذا مات بالإدراب ، وإن لم يكن في حياته لقاعد ، وقال ابن القاسم : لا يستحق بالإدراب إلا أن يكون في حياته لقاعد ، وشاهد القتال ، وقال أيضا : لا يستحق إذا شاهد القتال فمات بعده إلا ما قرب من ذلك ، والرابع : لا يستحق بمشاهدة القتال إلا ما غنم بذلك القتال خاصة ، قال المازري : وهل يملك الغنيمة بالأخذ وبالقسمة : قولان في المذهب وبالقسمة ، قال مالك و ( ح ) لأنه عليه السلام انتظر هوزان أن تسلم فيرد عليها ما أخذه ، ولو ملكت لامتنع ذلك ، وقال ( ش ) بالأخذ ; لأن السبب هو الإيجاف أو القتال ، والأصل ترتيب الحكم على سببه ، وإنما لم تقسم غنائم مكة وأرضها إما ; لأنها فتحت صلحا عند ( ش ) أو عنوة عند مالك وسائر الفقهاء ، لكن له عليه السلام المن بالمغانم لكونها لا تملك إلا بالقسمة أو تملك بالأخذ لكن ذلك من خصائصها ؛ لكونها إنما أحلت ساعة ثم عادت إلى الحرمة فلم تبح الغنائم ، ويدل على العنوة قوله تعالى : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) [ الفتح 1 ] وتأمينه عليه السلام من ألقى سلاحه ، ومن دخل دار أبي سفيان ، وفي ( الجواهر ) : يتفرع على ملك الغنيمة بالأخذ والقسمة لو وقع في الغنيمة من يعتق على بعض الغانمين عتق عليه ، وغرم نصيب أصحابه ، ولو أعتق عبدا من المغنم قوم عليه ، قاله سحنون ، وقال ابن القاسم ، وأشهب : لا ينفذ عتقه ، ولو وطئ أمة حد ولم تكن له أم ولد ، وإن سرق قطع خلافا لعبد الملك فيهما ، وقال سحنون : إن سرق ما يزيد على حصته [ ص: 428 ] بثلاثة دراهم قطع وإلا فلا ، ولا حد في الوطء ويثبت الاستيلاد ، وإن كان سهمه يستغرق الأمة أخذ منه قيمتها يوم الحمل ، وإلا كمل من ماله فإن كان معدما فنصيبه منها بحساب أم الولد ، ويباع باقيها فيما لزمه من القيمة ، ويتبع من قيمة الولد بقدر ذلك ، قال ابن يونس : قال سحنون : يستوي في أسهم الفارس الملك والجنس والكراء والعارية والغصب ، وعليه أجرة المثل للمغصوب منه ، وإن رمى رجلا من العدو عن فرسه فقاتل عليه فلا يسهم له ، ومن حضر القتال على فرس فلم يفتح لهم في يومهم فباعه فقاتل عليه رجل اليوم الثاني فلم يفتح لهم فباعه فقاتل عليه الثالث ففتح لهم فالسهام للبائع الأول ; لأنه قتال واحد كما لو مات بعد أول يوم ، وقاتل عليه الورثة ، ومن ابتاع فرسا بعد المغنم واشترط سهمه ، قال الأوزاعي : يجوز كمال العبد ، ومنع سحنون إن كان الثمن ذهبا ; لأنه ذهب وعرض بذهب ، والفرق أن العبد يملك فماله ليس مبيعا ، وإنما اشترط على السيد رفع يده ، وسهم الفرس مملوك للبائع ، وفي ( الجلاب ) : إجارة الفرس ببعض سهمه فاسدة وله أجرة المثل ، والسهمان للمقاتل ، قال صاحب ( البيان ) : إذا وجد فرسا عائدا عند القتال فقاتل عليه كان له سهمانه ، ولو لم يكن للرجل إلا فرس واحد فتعدى عليه رجل ، وقاتل عليه وصاحبه حاضر ووجده عائدا به لكانت سهمانه لصاحبه بخلاف المتعدي إذا لم يكن صاحبه حاضرا ، وهذا على مذهب ابن القاسم ، وروايته : أن السهمين إنما تستحق بالقتال ، وقال عبد الملك : إنها تستحق بالإيجاف ، ولا يكون للمقاتل شيء في التعدي ولا العارية ونحوها من الوجوه التي يوجف عليها أو يصير بيده بحدثان الإيجاف ، وهذا تفصيل فيما أجمله ابن يونس .

                                                                                                                قال ابن القاسم : يسهم للإمام كما يسهم لغيره ، قال مالك : ولا حق له من [ ص: 429 ] رأس الغنيمة والذي كان عليه السلام يصطفيه منها فرسا أو بعيرا أو أمة على حسب حال الغنيمة مخصوص به إجماعا ، قال اللخمي : قال أشهب : إذا ظفر بالعدو وفيهم أسارى مسلمون أسهم لهم ، وإن كانوا في الحديد .

                                                                                                                الرابع : في ( الكتاب ) : وإذا قاتل التاجر والأجير أسهم له ، وقاله ( ح ) و ( ش ) ولا يسهم للنساء ولا للعبيد والصبيان ، وإن قاتلوا ، ولا يرضخ لهم ، قال ابن يونس : من قاتل من النساء قتال الرجال أسهم لها ، ولا يسهم للعبد وإن قاتل ; لأنه مستحق المنافع ، ويستحب للإمام أن يجزي العبد والمرأة والصبي من الخمس ، وإن كان في المعسكر نصارى فلا بأس أن يعطوا من الخمس ، وقد روي أنه عليه السلام رضخ ليهود ونساء وصبيان وعبيد في المعسكر ، قال محمد : ويسهم لغير البالغ المطيق للقتال إن قاتل وإلا فلا ، قال ابن القصار : الأجير إذا خرج للجهاد وللإجارة بغير خدمة كالخياطة أسهم له قاتل أم لا ، قال سحنون : يسهم للأعمى والأقطع والأعرج والمخدوم فارسا ، قال : والصواب في الأعمى أن لا شيء له ، وكذلك الأقطع اليدين بخلاف أقطع اليسرى ويسهم للأعرج إن حضر القتال ، ولا شيء للمقعد إن كان راجلا ، ومن كان خروجه للغزو غير أن معه تجارة أسهم له قاتل أم لا ، وفي ( كتاب ) ابن مزين : يسهم للأجير إذا قاتل كانت الغنيمة قبل القتال أو بعده ، وإن كان القتال مرارا قسم له في جميع الغنيمة ، وإن لم يحضر إلا مرة واحدة ، قال ابن نافع : لا يسهم إلا أن يحضر أكثر ذلك فإن حضر مرة قسم له فيها فقط ، قال ابن حبيب : يسهم للغلام ابن خمس عشرة سنة قاتل أم لا ; لإجازته ابن عمر يوم الخندق وزيد بن ثابت والبراء بن عازب - رضي الله عنهم - أبناء خمس عشرة ، وإن كان دون ذلك إن قاتل أسهم له وإلا فلا ، وقال ( ش ) و ( ح ) : لا يسهم للمراهق ; لأن الإسهام تبع لوجوب القتال ، والمراهق لا يجب عليه شيء .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية