الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        12643 - قال مالك : الأمر عندنا فيما يدار من العروض للتجارات . . " إلى آخر كلامه في ذلك من موطئه .

                                                                                                                        [ ص: 109 ]

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        [ ص: 109 ] 12644 - قال أبو عمر : مذهب مالك وأصحابه أن التجارة تنقسم عندهم قسمين : أحدهما رجل يبتاع السلع في حين رخصها ويرتاد نفاقها ، فيأتي عليه في ذلك العام والأعوام ولم يبع تلك السلعة وقد نوى التجارة بها أنه لا زكاة عليه فيما اشترى من العروض حتى يبيعها ، فإذا باعها بعد أعوام لم يكن عليه أن يزكي إلا لعام واحد كالدين الذي يقتضيه صاحبه وقد غاب عنه ومكث أعواما عند الذي كان عليه أنه لا يزكيه إلا لعام واحد .

                                                                                                                        12645 - وروي مثل قول مالك في ذلك عن الشعبي ، وعمرو بن دينار وعبد الكريم بن أبي المخارق ، والذين قالوا في الدين أنه لا يزكيه إذا قبضه إلا لعام واحد منهم عطاء الخراساني .

                                                                                                                        12646 - وهو مذهب عمر بن عبد العزيز في المال الضمار وهو المحبوس عن صاحبه .

                                                                                                                        [ ص: 110 ] 12647 - والآخر هو الذين يسمونه المدير ، وهم أصحاب الحوانيت بالأسواق الذين يبتاعون السلع ويبيعون في كل يوم ما أمكنهم بيعه بما أمكن من قليل الناض وكثيره ويشترون من جهة ويبيعون من جهة أخرى . فهؤلاء إذا حال الحول عليهم من يوم ابتدءوا تجارتهم قدموا ما بأيديهم من العروض في رأس الحول فيضمون إلى ذلك ما بأيديهم من العين ويزكون الجميع بعينه ، ثم يستأنفون حولا من يوم زكوه .

                                                                                                                        12648 - قال مالك : وما كان من مال عند رجل يديره للتجارة ، ولا ينض لصاحبه منه شيء تجب عليه فيه الزكاة ، فإنه يجعل له شهرا من السنة يقوم فيه ما كان عنده من عرض للتجارة . ويحصي فيه ما كان عنده من نقد أو عين . فإذا بلغ ذلك كله ما تجب فيه الزكاة فإنه يزكيه .

                                                                                                                        12649 - وقد اختلف أصحاب مالك في المدير المذكور لا ينض له في حوله شيء من الذهب ولا من الورق ; فقال ابن القاسم : إن نض له في عامه ولو درهم واحد فما فوقه قوم عروضه كلها وأخرج الزكاة وإن لم ينض له شيء ؛ وإنما باع عامه كله العروض بالعروض لم يلزمه تقويم ولم تجب عليه لذلك زكاة .

                                                                                                                        [ ص: 111 ] 12650 - ورواه عن مالك وهو معنى ما ذكره ابن عبد الحكم عنه . ورواه ابن وهب عن مالك بمعنى ما رواه ابن القاسم .

                                                                                                                        12651 - وذكر مالك عن مطرف ، وابن الماجشون عن مالك أنه قال : على المدير أن يقوم عروضه في رأس الحول ويخرج زكاة ذلك نض له في عامه شيء أم لم ينض .

                                                                                                                        12652 - قال أبو عمر : هذا هو القياس ولا أعلم أصلا يعضد قول من قال : لا يعدل التاجر عروضه حتى ينض له شيء من الورق أو الذهب أو حتى ينض له نصاب كما قال نافع ; لأن العروض المشتراة بالورق والذهب للتجارة لو لم تقم مقامها لوضعها فيها للتجارة ما وجبت فيها زكاة أبدا ؛ لأن الزكاة لا تجب فيها لعينها إذا كانت لغير التجارة بإجماع علماء الأمة ؛ وإنما وجب تقويمها عندهم للمتاجر بها ؛ لأنها كالعين الموضوعة فيها التجارة ، وإذا كانت كذلك فلا معنى لمراعاة ما نض من العين قليلا كان أو كثيرا ، ولو كانت جنسا آخر ما وجبت فيها زكاة من أجل غيرها ؛ وإنما صارت كالعين ؛ لأن النماء لا يطلب بالعين إلا هكذا .

                                                                                                                        12653 - وهو قول جماعة الفقهاء بالعراق والحجاز .

                                                                                                                        12654 - قال الشافعي : من اشترى عرضا للتجارة حال عليه الحول [ ص: 112 ] من يوم ابتاعه للتجارة فعليه أن يقومه بالأغلب من نقد بلده دنانير كانت أو دراهم ، ثم يخرج زكاته من الذي قومه به إذا بلغت قيمته ما يجب فيه الزكاة ، وهذه سبيل كل عرض أريد به التجارة .

                                                                                                                        12655 - وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وقول الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد والطبراني ، والمدير عندهم وغير المدير سواء ، وكلهم تاجر مدير يطلب الربح بما يضعه من العين في العروض .

                                                                                                                        12656 - وأما داود بن علي فإنه شذ عن جماعة الفقهاء ، فلم ير الزكاة فيها على حال اشتريت للتجارة أو لم تشتر للتجارة .

                                                                                                                        12657 - واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " .

                                                                                                                        [ ص: 113 ] 12658 - قال : ولم يقل إلا أن ينوي فيها التجارة ، وزعم أن الاختلاف في زكاة العروض موجود بين العلماء فلذلك نزع بما نزع من دليل عموم السنة .

                                                                                                                        12659 - وذكر عن عائشة وابن عباس وعطاء ، وعمرو بن دينار أنهم قالوا : لا زكاة في العروض .

                                                                                                                        12660 - قال أبو عمر : هذا - لعمري - موجود عن هؤلاء وعن غيرهم محفوظ أنه لا زكاة في العروض ، ولا زكاة إلا في العين والحرث والماشية ، وليس هذا عن واحد منهم على زكاة التجارات ؛ وإنما هذا عندهم على زكاة العروض المقتناة لغير التجارة ، وما أعلم أحدا روي عنه أنه لا زكاة في العروض للتجارة حتى تباع إلا ابن عباس على اختلاف عنه .

                                                                                                                        12661 - وذكر داود عن مالك أنه قال : لا أرى الزكاة في العروض على التاجر الذي يبيع العرض بالعرض ولا ينض له شيء : ولا على من بارت عليه سلعته اشتراها للتجارة حتى يبيع تلك السلعة وينض ثمنها بيده .

                                                                                                                        12662 - قال أبو عمر : لو كان في قول مالك هذا له حجة في إسقاط الزكاة فيما بأيديهم من العروض للتجارة لكان في قول مالك أنه يقوم العروض ويزكيها إذا نض له أقل شيء حجة عليه ، وقول مالك أنه يزكي العرض إذا باعه غير المدير ساعة يبيعه دليل على أنه يرى فيه الزكاة إذا لم يستأنف [ ص: 114 ] بالثمن حولا . ولكنه لا يقول بقول مالك في ذلك ولا بقول غيره من أئمة الفقهاء وسائر السلف الذين ذكرنا أقوالهم في إيجاب الزكاة في العروض المشتراة للتجارة ، ويحتج بما لا حجة فيه عنده ولا عند غيره مغالطة .

                                                                                                                        12663 - وقد حكينا عن مالك أنه قال في ذلك بقول الجمهور الذين هم الحجة على من خالفهم ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                        12664 - واحتج أيضا داود وبعض أصحابه في هذه المسألة ببراءة الذمة وأنه لا ينبغي أن يجب فيها شيء لمسكين ولا غيره إلا بنص كتاب أو سنة أو إجماع ، وزعم أنها مسألة خلاف .

                                                                                                                        12665 - قال أبو عمر : احتجاج أهل الظاهر في هذه المسألة ببراءة الذمة عجب عجيب ; لأن ذلك نقض لأصولهم ورد لقولهم وكسر للمعنى الذي بنوا عليه مذهبهم في القول بظاهر الكتاب والسنة ; لأن الله عز وجل قال في كتابه : خذ من أموالهم صدقة ( 103 من سورة التوبة ) ولم يخص مالا من مال ، وظاهر هذا القول يوجب على أصوله أن تجري الزكاة من كل مال إلا ما أجمعت الأمة أنه لا زكاة فيه من الأموال ، ولا إجماع في إسقاط الزكاة عن عروض التجارة ، بل القول في إيجاب الزكاة فيها إجماع من الجمهور الذين لا يجوز الغلط عليهم ولا الخروج عن جماعتهم ؛ لأنه مستحيل أن يجوز الغلط في التأويل على جميعهم .

                                                                                                                        12666 - وأما السنة التي زعم أنها خصت ظاهر الكتاب وأخرجته عن عمومه فلا دليل له فيما ادعى من ذلك ; لأن أهل العلم قد أجمعوا أنه لا سنة [ ص: 115 ] في ذلك إلا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " . وحديث علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق " ، فالواجب على أصل أهل الظاهر - أن تكون الزكاة تؤخذ من كل مال ما عدا الرقيق والخيل ؛ لأنهم لا يقيسون على الخيل والرقيق ما كان في معناهما من العروض ، ولا إجماع في إسقاط الصدقة عن العروض المبتاعة للتجارة ، بل القول في إيجاب الزكاة فيه نوع من الإجماع ، وفي هذا كله وما كان مثله أوضح الدلائل على تناقضهم فيما قالوه ونقضهم لما أصلوه ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                        12667 - قال أبو عمر : من الحجة في إيجاب الصدقة في عروض التجارة مع ما تقدم من عمل العمرين رضى الله عنهما حديث سمرة بن جندب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                        12668 - ذكره أبو داود وغيره بالإسناد عن سمرة ، وقد ذكرناه في " التمهيد " عن سمرة أنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع " .

                                                                                                                        [ ص: 116 ] 12669 - وروى الشافعي وغيره عن ابن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن أبي عمرو بن حماس أن أباه حماسا قال : مررت على عمر بن الخطاب ، وعلى عاتقي أدمة أحملها ، فقال لي : ألا تؤدي زكاتها يا حماس ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين ما لي غير هذه وآهبة من القرظ . فقال : ذلك مال فضع . فوضعتها بين يديه فحسبها فوجدها قد وجبت فيها الزكاة ; فأخذ منها الزكاة .

                                                                                                                        12670 - وذكر عبد الرزاق عن الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن أبي سلمة ، عن حماس ، عن أبيه ، قال : مر علي عمر ، فقال : أد زكاة مالك . فقلت : ما لي مال أزكيه إلا في الجعاب والأدم . فقال : قومه وأد زكاته .

                                                                                                                        12671 - فهذا الحديث عن عمر من رواية أهل الحجاز . وقد تقدم في هذا الباب من رواية أهل العراق حديث أنس بن سيرين ، عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب بمثل ذلك . فلا مقال لأحد في إسناد حديث أنس هذا .

                                                                                                                        2672 1 - وروى أبو الزناد وغيره عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه أنه كان يقول : كل مال أو رقيق أو دواب أدير للتجارة فيه الزكاة .

                                                                                                                        [ ص: 117 ] 12673 - وقال أبو جعفر الطحاوي : قد ثبت عن عمر ، وابن عمر زكاة عروض التجارة ، ولا مخالف لهما من الصحابة رضوان الله عليهم .

                                                                                                                        12674 - قال أبو عمر : هذا يشهد لما وصفنا أن قول ابن عباس " لا زكاة في العروض " إنما هو في عروض القنية كقول سائر العلماء .

                                                                                                                        12675 - وأما ما ذكره عن عطاء ، وعمرو بن دينار فقد أخطأ عليهما ، وليس ذلك بمعروف عنهما ، والمعروف عنهما خلاف ما يوافق مذهب مالك في ذلك .

                                                                                                                        12676 - ذكر عبد الرزاق عن معمر ، عن ابن طاوس ، وعن معمر عن جابر عن الشعبي ، وعن ابن جريج عن عطاء : أنهم قالوا في العرض للتجارة : لا زكاة فيه حتى يبيعه ، فإذا باعه زكاه وأدى زكاة واحدة .

                                                                                                                        12677 - قال ابن جريج : وقال عطاء : لا زكاة في عرض لا يدار . قال : والذهب والفضة يزكيان وإن لم يدارا .

                                                                                                                        12677 - قال أبو عمر : لا أعلم أحدا قال بقول الشعبي وعطاء في غير المدير إلا مالكا رحمه الله ، وأما طاوس فقد اختلف عنه في ذلك فروي عنه [ ص: 118 ] ما ذكرنا ، وروي عنه إيجاب الزكاة في عروض التجارة كل عام بالتقويم كسائر العلماء .

                                                                                                                        12679 - وممن قد روينا ذلك عنه من السلف إذ قد ذكرنا من قاله من أئمة الفتيا بالأمصار : سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير ، وسائر الفقهاء السبعة ، والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي ، وطاوس اليماني ، وجابر بن زيد ، وميمون بن مهران .

                                                                                                                        12680 - هؤلاء أئمة التابعين في أمصار المسلمين ، وسبيلهم سلك جمهور الفقهاء من أهل الرأي والحديث بالعراق والحجاز والشام .

                                                                                                                        12681 - أخبرنا خلف بن سعيد ، قال : حدثنا أحمد بن خالد ، قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرني ابن جريج ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه كان يقول : في كل مال يدار في عبيد أو دواب أو طعام الزكاة كل عام .

                                                                                                                        12682 - قال أبو عمر : ما كان ابن عمر ليقول مثل هذا من رأيه ; لأن مثل هذا لا يدرك بالرأي ، والله أعلم ، ولولا أن ذلك عنده سنة مسنونة ما قاله ، وبالله التوفيق .




                                                                                                                        الخدمات العلمية