الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        642 [ ص: 44 ] 602 - وذكر مالك أيضا عن عبد ربه بن سعيد ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن عائشة ، وأم سلمة زوجي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهما قالتا : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا من جماع ، غير احتلام ، في رمضان ، ثم يصوم .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        13862 - قال أبو عمر : الآثار متفقة عن عائشة وأم سلمة وغيرهما ، بمعنى ما ذكره مالك عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        13863 - وما أعلم خلافا في ذلك إلا ما يروى عن أبي هريرة ، وهو قوله : من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم .

                                                                                                                        [ ص: 45 ] 13864 - وقد وقف على ذلك ما حال فيه على غيره ، وسنذكره بعد ، إن شاء الله .

                                                                                                                        13865 - أخبرنا أحمد بن إبراهيم ، قال : حدثنا محمد بن معاوية ، قال : أخبرنا محمد بن منصور ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن يحيى بن جدعة ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو القارئ ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : لا ورب هذا البيت ما أنا قلته : " من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصوم " ، محمد ورب الكعبة قاله .

                                                                                                                        13866 - وروى الليث ، عن عقيل ، عن الزهري ، قال : أخبرني عبد الله بن عبد الله بن عمر ، أنه احتلم ليلا ، فاستيقظ قبل أن يطلع الفجر ، ثم نام قبل أن يغتسل ، فلم يستيقظ حتى أصبح . قال : فلقيت أبا هريرة حين أصبحت ، فاستفتيته في ذلك ، فقال : أفطر ; فإن رسول [ ص: 46 ] الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرنا بالفطر إذا أصبح الرجل جنبا .

                                                                                                                        قال عبد الله بن عبد الله بن عمر : فجئت عبد الله بن عمر فذكرت الذي أفتاني به أبو هريرة ، فقال : إني أقسم بالله لإن أفطرت لأوجعن متنيك ، فإن بدا لك أن تصوم يوما آخر فافعل .

                                                                                                                        13867 - اختلف عن ابن شهاب في اسم ابن عبد الله بن عمر هذا ؟ فقيل : عبد الله بن عبد الله بن عمر ، وقيل : عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، وكان ما يروي كلاهما ثقة ثبت .

                                                                                                                        13868 - قال أبو عمر : روي عن أبي هريرة أنه رجع عن هذه الفتوى إلى ما عليه الناس من حديث عائشة ، ومن وافقها .

                                                                                                                        - روى عبد الله بن المبارك ، عن ابن أبي ذئب ، عن سليمان بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أخيه محمد بن عبد الرحمن ، أنه سمع أبا هريرة ، يقول : من احتلم أو واقع أهله ثم أدركه الفجر ولم يغتسل ، فلا يصم .

                                                                                                                        قال : ثم سمعته نزع عن ذلك .

                                                                                                                        13869 - وروى منصور ، عن مجاهد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، أن أبا هريرة كف عن ذلك ؛ لحديث عائشة فيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                        13870 - وروى محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أنه نزع أيضا .

                                                                                                                        [ ص: 47 ] 13871 - وأما اختلاف العلماء في هذا الباب ; فالذي عليه فقه جماعة الأمصار بالعراق والحجاز - القول بحديث عائشة وأم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصبح جنبا ويصوم ذلك اليوم .

                                                                                                                        13872 - وهو قول علي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وأبي الدرداء ، وأبي ذر ، وعبد الله بن عمر ، وابن عباس . ومن الفقهاء أئمة الفتوى بالأمصار : مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث وأصحابهم ، وأحمد ، وأبو ثور ، وإسحاق ، وابن علية ، وأبو عبيد ، وداود ، والطبري ، وجماعة أهل الحديث .

                                                                                                                        13873 - وروي عن إبراهيم النخعي ، وعروة بن الزبير ، وطاوس ، أن الجنب في رمضان إذا علم بجنابته ، فلم يغتسل حتى يصبح ، فهو مفطر ، وإن لم يعلم حين يصبح فهو صائم .

                                                                                                                        13874 - وروي عن الحسن البصري ، وسالم بن عبد الله أنهما قالا : يتم صومه ذلك اليوم ، ويقضيه إذا أصبح فيه جنبا .

                                                                                                                        13875 - وقال إبراهيم النخعي في رواية : إن ذلك يجزئه في التطوع ، ويقضي في الفرض .

                                                                                                                        13876 - وكان الحسن بن حي يستحب لمن أصبح جنبا في رمضان أن يقضي ذلك اليوم . وكان يقول : يصوم الرجل تطوعا ، وإذا أصبح جنبا فلا قضاء عليه ، [ ص: 48 ] وكان يدعي على الحائض إذا أدركها الصبح ولم تغتسل أن تقضي ذلك اليوم .

                                                                                                                        13877 - وذهب عبد الملك بن الماجشون في الحائض إلى نحو هذا المذهب ، أنها إذا طهرت قبل الفجر ثم أخرت غسلها حتى تطلع الشمس فيومها يوم فطر ; لأنها في بعضه غير طاهرة ، وليست كالتي تصبح جنبا فتصوم ؛ لأن الاحتلام لا ينقض الوضوء والحيض ينقضه .

                                                                                                                        13878 - قال أبو عمر : قول ابن الماجشون في التي تؤخر غسلها بعد طهرها قبل الفجر حتى يطلع الفجر ثم تغتسل بعد الفجر أن يومها يوم فطر ; لأنها كانت في بعضه حائضا - غفلة شديدة ، وكيف تكون في بعضه حائضا وقد كمل طهرها قبل الفجر ؟ ولذلك أمرت بالغسل ولو لم تكن ما أمرت بالغسل . بل هي طاهر فرطت في غسلها ، فحكمها وحكم الجنب سواء .

                                                                                                                        13879 - وعلى هذا جمهور العلماء بالحجاز والعراق ، وهو قول مالك وأصحابه - حاشا عبد الملك - وقول الشافعي ، وأبي حنيفة ، وإسحاق ، وأحمد ، وأبي ثور ، وغيرهم .

                                                                                                                        13880 - وإنما دخلت الشبهة فيه على ابن الماجشون ; لأن مالكا جعل لها إذا لم تفرط في الحيض من غسلها حكم الحائض ، وأسقط عنها الصلاة - إذا لم تدرك بعد غسلها من غير تفريط - مقدار ركعة من وقتها .

                                                                                                                        13881 - وقد ذكرنا من خالفه من العلماء في ذلك .

                                                                                                                        13882 - وأما الصيام فالطهر فيه عند العلماء : رؤيتها للنقاء ولا يراعون غسلها بالماء ، فمن طلع بها الفجر طاهرا لزمها صوم ذلك اليوم ; لأن الصوم ليس من شرطه الاغتسال .

                                                                                                                        [ ص: 49 ] 13883 - قال أبو عمر : قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصائم يصبح جنبا ما فيه غناء واكتفاء عن قول كل أحد ، ودل كتاب الله تعالى على مثل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك .

                                                                                                                        13884 - قال الله تعالى : فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر [ البقرة : 178 ] .

                                                                                                                        13885 - فإذا أبيح الجماع والأكل والشرب حتى يتبين الفجر ، فمعلوم أن الغسل لا يكون إلا بعد الفجر .

                                                                                                                        13886 - وقد نزع بهذا جماعة من العلماء ، منهم : ربيعة ، والشافعي ، وغيرهما .

                                                                                                                        13887 - ومن الحجة أيضا في ذلك أن العلماء أجمعوا أن الاحتلام بالنهار لا يفسد الصيام .




                                                                                                                        الخدمات العلمية