الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        956 912 - مالك ، عن عطاء بن عبد الله الخراساني أنه قال : حدثني شيخ بسوق البرم بالكوفة ، عن كعب بن عجرة أنه قال : جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أنفخ تحت قدر لأصحابي . وقد امتلأ رأسي ولحيتي قملا . فأخذ بجبهتي ، ثم قال : " احلق هذا الشعر . وصم ثلاثة أيام . أو أطعم ستة مساكين " وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم أنه ليس عندي ما أنسك به .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        18934 - وليس في حديث حميد ذكر مقدار الطعام كما هو ، ولا في [ ص: 302 ] حديث عطاء وعبد الكريم ، والشيخ الذي روى عنه عطاء الخراساني هذا الحديث ، الذي لقيه بسوق البرم بالكوفة ، قيل : هو عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وقيل : هو عبد الرحمن بن معقل بن مقرن ، وكلاهما كوفي يروي هذا الحديث ويعرف به .

                                                                                                                        18935 - وقد ذكرنا طرقه عنهما في باب حميد ، وباب عطاء الخراساني ، من " التمهيد " .

                                                                                                                        وذكرنا هنا اختلاف ألفاظ الناقلين لحديث كعب بن عجرة هذا مستوعبة في باب حميد بن قيس ، وأكثرها وردت بلفظ التخيير ، وهو نص القرآن في قوله - تعالى - : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ البقرة : 196 ] .

                                                                                                                        وعليه مضى عمل العلماء وقبولهم .

                                                                                                                        18936 - واختلف الفقهاء في مبلغ الإطعام في فدية الأذى

                                                                                                                        18937 - فقال مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهم : الإطعام في ذلك : مدان مدان ، بمد النبي - عليه السلام - لكل مسكين ، ستة مساكين .

                                                                                                                        [ ص: 303 ] 18938 - وهو قول أبي ثور ، وإسحاق ، وداود .

                                                                                                                        18939 - وروي عن الثوري ، أنه قال في الفدية : من البر نصف صاع ، ومن التمر ، والشعير ، والزبيب صاع .

                                                                                                                        19840 - وروي عن أبي حنيفة أيضا مثله ، جعل نصفا من بر يعدل صاعا من تمر وشعير ، وهو أصله في الكفارات .

                                                                                                                        18941 - وقال أحمد بن حنبل مرة كما قال مالك والشافعي ، مرة قال : إن أطعم برا ، فمد لكل مسكين ، وإن أطعم تمرا ، فنصف صاع .

                                                                                                                        18942 - قال أبو عمر : لم يختلف الفقهاء أن الإطعام لستة مساكين ، وأن الصيام ثلاثة أيام ، وأن النسك شاة ، على ما في حديث كعب بن عجرة ، إلا شيئا روي عن الحسن ، وعكرمة ، ونافع ، أنهم قالوا : الإطعام لعشرة مساكين ، والصيام عشرة أيام . ولم يتابعهم أحد من العلماء على ذلك كما في السنة ، في حديث كعب بن عجرة من خلافه .

                                                                                                                        18943 - وقال الله - تعالى - : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ البقرة : 196 ] .

                                                                                                                        18944 - قال ابن عباس : المرض : أن تكون برأسه قروح . والأذى : [ ص: 304 ] القمل .

                                                                                                                        18945 - وقال عطاء : المرض : الصداع ، والقمل ، وغيره .

                                                                                                                        18946 - قال أبو عمر : حديث كعب بن عجرة أصل هذا الباب في معنى الآية عند العلماء .

                                                                                                                        18947 - حدثنا خلف بن قاسم قال : حدثنا محمد بن أحمد بن كامل قال : حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج قال : سمعت أحمد بن صالح يقول : حديث كعب بن عجرة في الفدية سنة معمول بها عند جماعة العلماء ، ولم يروها أحد من الصحابة غير كعب ، ولا رواها عن كعب إلا رجلان ثقتان من أهل الكوفة ، عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعبد الله بن معقل ، وهي سنة [ ص: 305 ] أخذها أهل المدينة ، وغيرهم عن أهل الكوفة .

                                                                                                                        18948 - قال ابن شهاب سألت عنها علماءنا كلهم حتى سعيد بن المسيب ، فلم يثبتوا كم عدة المساكين .

                                                                                                                        18949 - قال أبو عمر : أجمعوا أن الفدية واجبة على من حلق رأسه من عذر وضرورة .

                                                                                                                        18950 - وأجمع العلماء على أنه إذا كان حلقه لرأسه من أجل ذلك ، فهو مخير في ما نص الله عليه من الصيام والصدقة والنسك .

                                                                                                                        18951 - واختلفوا في من حلق رأسه عامدا من غير ضرورة ، أو تطيب لغير ضرورة :

                                                                                                                        [ ص: 306 ] 18952 - فقال مالك : بئس ما فعل ، وعليه الفدية ، هو مخير فيها ; إن شاء صام ثلاثة أيام ، وإن شاء ذبح شاة ، وإن شاء أطعم ستة مساكين مدين مدين من قوته ، أي ذلك شاء فعل .

                                                                                                                        18953 - ومن حجته أن السنة قد وردت في كعب بن عجرة ، في حلقة رأسه وقد أذاه هوامه . 50 18954 - ولو كان حكم الضرورة مخالفا لنبيه - عليه السلام - ولما لم تسقط الفدية من غير ضرورة ، علم أن الضرورة وغيرها سواء .

                                                                                                                        18955 - وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأبو ثور : ليس بمخير إلا في الضرورة ; لشرط الله - تعالى - بقوله : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه [ البقرة : 196 ] .

                                                                                                                        فأما إذا حلق ، أو لبس ، أو تطيب عامدا من غير ضرورة ، فعليه دم ، لا غير .

                                                                                                                        18956 - واختلفوا فيمن حلق ، أو لبس ، أو تطيب عامدا من غير ضرورة .

                                                                                                                        18957 - فقال مالك : العامد ، والناسي ، في ذلك سواء في وجوب الفدية .

                                                                                                                        18958 - وقال إسحاق ، وداود : لا فدية عليهم في شيء من ذلك ; إن [ ص: 307 ] صنعه ناسيا .

                                                                                                                        18959 - وجمهور العلماء يوجبون الفدية على المحرم إذا حلق شعر جسده ، أو أطلى ، أو حلق موضع المحاجم .

                                                                                                                        18960 - وبعضهم يجعل عليه في ذلك كله دما ، ولا يجيز إلا في الضرورة .

                                                                                                                        18961 - وقال داود : لا شيء عليه في حلق شعر جسده .

                                                                                                                        18962 - واختلفوا في موضع الفدية

                                                                                                                        18963 - فقال مالك : يفعل من ذلك ما شاء ، أين شاء بمكة ، أو بغيرها ، وإن شاء ببلده ، سواء عنده في ذلك ذبح النسك ، والإطعام ، والصيام .

                                                                                                                        18964 - وهو قول مجاهد .

                                                                                                                        18965 - والذبح عند مالك هاهنا سنة ، وليس بهدي .

                                                                                                                        18966 - قال : الهدي لا يكون إلا بمكة ، والنسك يكون حيث شاء .

                                                                                                                        18967 - وحجته في أن النسك جائز أن يكون بغير مكة حديث عن يحيى بن سعيد ، عن يعقوب بن خالد المخزومي ، عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر ، أنه أخبره أنه كان مع عبد الله بن جعفر ، وخرج معه من [ ص: 308 ] المدينة ، فمروا على حسين بن علي ، وهو مريض بالسقيا ، فأقام عليه عبد الله بن جعفر ، حتى إذا خاف الموت خرج وبعث إلى علي بن أبي طالب وأسماء بنت عميس ، وهما بالمدينة فقدما عليه ، ثم إن حسينا أشار إلى رأسه ، فأشار علي بحلق رأسه ، ثم نسك عنه بالسقيا ، فنحر عنه بعيرا .

                                                                                                                        18968 - فهذا أوضح في أن الدم في فدية الأذى جائز أن يهراق بغير مكة .

                                                                                                                        18969 - وجائز عند مالك في الهدي ، إذا نحر في الحرم ، أن يعطاه غير أهل الحرم ؛ لأن البغية فيه إطعام المساكين .

                                                                                                                        18970 - ولم يختلفوا أن الصوم جائز أن يؤتى به في غير الحرم .

                                                                                                                        18971 - وقال أبو حنيفة ، والشافعي : الدم ، والإطعام ، لا يجزئ إلا بمكة ، والصوم حيث شاء ; لأنه لا منفعة في الصوم لجيران بيت الله من أهل مكة والحرم .

                                                                                                                        18972 - وهو قول طاوس .

                                                                                                                        18973 - وقال : ما كان من دم ، فبمكة ، وما كان من إطعام ، أو صيام ، فحيث شاء .

                                                                                                                        [ ص: 309 ] 18974 - وعن أبي حنيفة وأصحابه مثله .

                                                                                                                        18975 - ولم يختلف قول الشافعي أن الدم والإطعام لا يجزئ إلا لمساكين الحرم .

                                                                                                                        18976 - قال أبو عمر : لا يوجب مالك الفدية إلا على من حلق قبل أن يرمي ، وأما من حلق قبل أن ينحر ، فلا شيء عليه عنده .

                                                                                                                        18977 - وقال أبو حنيفة : من حلق قبل أن ينحر ، أو قبل أن يرمي فعليه الفدية .

                                                                                                                        18978 - وقال الشافعي : إن حلق قبل أن يرمي ، أو قبل أن ينحر ، فلا شيء عليه .

                                                                                                                        18979 - وسنزيد هذه المسألة بيانا في باب جامع الحج ، إن شاء الله - عز وجل .




                                                                                                                        الخدمات العلمية