الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        118 96 - رواه مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة ، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت : جاءت أم سليم ، امرأة [ ص: 122 ] أبي طلحة الأنصاري ، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ! إن الله لا يستحي من الحق ، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ فقال : " نعم . إذا رأت الماء " .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        3018 - وكذلك رواه سائر من رواه عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة ، لا عن عروة ، عن عائشة . وهو الصحيح عندهم . لعروة عن زينب ، عن أمها ، لا عن عائشة ، والله أعلم .

                                                                                                                        3019 - وفي هذا الحديث والذي قبله - إيجاب الغسل على النساء إذا احتلمن ، ورأين الماء . حكمهن في ذلك حكم الرجال في الاحتلام إذا كان معه الإنزال .

                                                                                                                        3020 - وهذا ما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء ، والحمد لله .

                                                                                                                        3021 - وأكثر أصحاب ابن شهاب يقولون في هذا الحديث : نعم ، إذا وجدت الماء .

                                                                                                                        [ ص: 123 ] 3022 - وكذلك في حديث أم سلمة وأنس في قصة أم سليم وكذلك روته خولة بنت حكيم ، عن النبي - عليه السلام - .

                                                                                                                        3023 - والعلماء على ذلك مجمعون فيمن وجد الماء الدافق من الرجال والنساء .

                                                                                                                        3024 - وقد أوضحنا في التمهيد هذا المعنى .

                                                                                                                        3025 - وقد روي هذا المعنى ملخصا من أخبار الآحاد العدول مرفوعا .

                                                                                                                        3026 - رواه عبد الله بن عمر ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، قالت : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجد البلل ، ولا يذكر احتلاما ، قال : " يغتسل " وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولا يجد البلل ، قال : لا غسل عليه . فقالت أم سليم : " المرأة ترى ذلك أعليها الغسل ؟ قال : نعم . إنما النساء شقائق الرجال .

                                                                                                                        3027 - وروى قتادة عن أنس أن أم سليم سألت رسول الله عن المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا رأت ذلك ، فأنزلت فعليها الغسل " فقالت أم سلمة : أيكون هذا يا رسول الله ؟ قال : نعم . ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر . فأيهما سبق ، أو علا أشبهه الولد .

                                                                                                                        [ ص: 124 ] 3028 - حدثنا سعيد بن نصر ، حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا محمد ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا يزيد بن هارون ، قال أخبرنا سعيد بن عروبة عن قتادة عن أنس .

                                                                                                                        3029 - وهذا واضح لا إشكال فيه ، ولا مدخل للقول ، وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث في التمهيد . 3030 - وفي هذا الحديث ما كان عليه نساء ذلك الزمان من الاهتبال ، والاهتمام بأمر دينهن ، والسؤال عنه .

                                                                                                                        3031 - وهذا يلزم كل مؤمن ومؤمنة إذا جهل شيئا من أمر دينه أن يسأل عنه .

                                                                                                                        3032 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " شفاء العي السؤال " .

                                                                                                                        3033 - وقالت عائشة : رحم الله نساء الأنصار ، لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن .

                                                                                                                        3034 - وكانت أم سليم من فواضل نساء الأنصار .

                                                                                                                        3035 - وفيه أيضا دليل على أن النساء ليس كلهن يحتلمن ، ولهذا أنكرت عائشة وأم سلمة سؤال أم سليم . وقد يعدم الاحتلام في بعض الرجال ، فالنساء أحرى أن يعدم ذلك فيهن .

                                                                                                                        [ ص: 125 ] 3036 - وقد قيل : إن إنكار عائشة لذلك إنما كان لصغر سنها ، وكونها مع زوجها ؛ لأنها لم تحض إلا عنده ، ولم تفقده فقدا طويلا إلا بموته - عليه السلام - . فلذلك لم تعرف في حياته الاحتلام ؛ لأن الاحتلام لا يعرفه النساء ولا أكثر الرجال إلا عند عدم الجماع . بعد المعرفة به . فإذا فقد النساء أزواجهن احتلمن . والوجه الأول عندي أصح وأولى ، والله أعلم ؛ لأن أم سلمة فقدت زوجها وكانت كبيرة عالمة بذلك ، وأنكرت منه ما أنكرت عائشة - رحمها الله - . فدل ذلك على أن من النساء من لا تنزل الماء في غير الجماع الذي يكون حقيقة في اليقظة ، والله أعلم .

                                                                                                                        3037 - وفيه جواز الإنكار والدعاء بالسوء على من اعترض فيما لا علم له به .

                                                                                                                        3038 - وفيه أن الشبه يكون من سبق الماء وعلوه وغلبته ، والله أعلم ، على ما مضى في الآثار التي ذكرنا .

                                                                                                                        3039 - ومثلها ما ذكره ابن وهب ، قال : أخبرنا ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سليم امرأة أبي طلحة قالت : يا رسول الله ! هل على المرأة ترى زوجها في المنام يقع عليها - غسل ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعم . إذا رأت بللا . فقالت أم سلمة : يا رسول الله ! وتفعل ذلك المرأة ؟ فقال : " ترب جبينك " وأنى يكون شبه الخئولة إلا من ذلك ؟ أي النطفتين سبقت إلى الرحم غلبت على الشبه .

                                                                                                                        3040 - قال أبو عمر : كذا قال : جبينك والمعروف تربت يمينك ، وتربت يداك ، والله أعلم .

                                                                                                                        3041 - وقد أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال حدثنا أحمد بن جعفر [ ص: 126 ] بن حمدان ببغداد ، قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال حدثنا أبي قال حدثنا يزيد بن هارون وحجاج بن محمد ، قالا : أخبرنا ابن أبي ذئب عن المقبري ، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة ، عن أم سلمة أن أم سليم - قال حجاج : امرأة أبي طلحة - قالت : يا رسول الله ! المرأة ترى زوجها في المنام يقع عليها أعليها غسل ؟ قال : نعم . إذا رأت بللا . فقالت أم سلمة : أو تفعل ذلك المرأة ؟ فقال : تربت يمينك . أنى يأتي شبه الخئولة إلا من ذلك ؟ أي النطفتين سبقت إلى الرحم غلبت على الشبه " .

                                                                                                                        3042 - وقال حجاج في حديثه : " ترب جبينك " .

                                                                                                                        3043 - وروى أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أم سلمة ، عن أمها مثل حديث مالك عن هشام بن عروة المذكور في هذا الباب ، إلا أنه قال : فقالت أم سلمة - وغطت وجهها - : أو تحتلم المرأة ؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تربت يداك فبم يشبهها ولدها ؟ .

                                                                                                                        3044 - وقد روى ثوبان مولى النبي عن النبي - عليه السلام - ما يخالف الحديث المذكور في الشبه . رواه معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام الحبشي يقول : حدثني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان مولى النبي - عليه السلام - حدثه أن حبرا من أحبار اليهود قال لرسول الله : أسألك عن الولد ، فقال رسول الله : ماء الرجل أبيض ، وماء المرأة أصفر . فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن [ ص: 127 ] الله ، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله ، فقال اليهودي : أشهد أنك نبي ، ثم انصرف وذكر تمام الحديث .

                                                                                                                        3045 - وأما قوله في الحديث : " أف لك " فيجر ويرفع وينصب بتنوين وغير تنوين .

                                                                                                                        3046 - ذكر ذلك أبو عبيدة وغيره ، وقال : هو ما غلظ من الكلام ، وقبح . وقال غيره : معنى هذه اللفظة : أنه يقال جوابا لما يستثقل من الكلام ، وما يضجر منه . وقالوا : الأف ، والتف بمعنى . قالوا : والأف وسخ الأذن ، والتف : وسخ الأظفار .

                                                                                                                        3047 - وأما قوله " تربت يداك " . و " تربت يمينك " ففيه قولان :

                                                                                                                        3048 - ( أحدهما ) أن يكون استغنت يداك أو يمينك ، كأنه يعرض لها بالجهل لما أنكرت ما لا ينبغي أن ينكر ، وأنها كانت تحتاج أن تسأل عن ذلك ، فخاطبها بضد المعنى تنبيها وتأنيبا ، كما قيل في قوله تعالى : " ذق إنك أنت العزيز الكريم " [ سورة الدخان : 49 ] وكما تقول لمن كف عن السؤال فيما جهله : أما أنت فاستغنيت أن تسأل عن مثل هذا ، أي لو أنصفت نفسك ونصحت لها لسألت .

                                                                                                                        3049 - وقال غيره : هو كما يقال للشاعر إذا أجاد : قاتله الله ، وأخزاه ، لقد أجاد ! ويله مسعر حرب ! وقال : ويل أمه ! وهو يريد مدحه .

                                                                                                                        3050 - وهذا كله عند من قال هذا القول فرارا من الدعاء على عائشة تصريحا [ ص: 128 ] وأن ذلك غير ممكن من النبي - عليه السلام - عندهم .

                                                                                                                        3051 - وأنكر أكثر أهل العلم باللغة والمعاني أن تكون هذه اللفظة بمعنى الاستغناء ، وقالوا : لو كانت بمعنى الاستغناء لقال : أتربت يمينك ؛ لأن الفعل منه رباعي . يقال : أترب الرجل : إذا استغنى ، وترب : إذا افتقر . وقالوا : معنى قوله : " تربت يمينك " أي : افتقرت من العلم بما سألت عنه أم سليم ، ونحو هذا .

                                                                                                                        3052 - قال أبو عمر : أما قوله " تربت يمينك " فمعلوم من دعاء العرب بعضهم على بعض ، مثل : قاتله الله ، وهوت أمه ، وثكلته أمه ، وعقرا حلقا ، ولليدين والفم ، ونحو هذا . والشبه والشبه ، مثل : المثل والمثل والقتب والقتب .




                                                                                                                        الخدمات العلمية