الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1046 [ ص: 166 ] ( 4 ) باب ادخار لحوم الأضاحي .

                                                                                                                        1003 - مالك ، عن أبي الزبير المكي ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاثة أيام ، ثم قال بعد ، كلوا ، وتصدقوا ، وتزودوا ، وادخروا .

                                                                                                                        1004 - مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عبد الله بن واقد ; أنه قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاثة أيام ، قال عبد الله بن أبي بكر : فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن ، فقالت : صدق . سمعت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول : دف ناس من أهل [ ص: 167 ] البادية حضرة الأضحى ، في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ادخروا لثلاث . وتصدقوا بما بقي ، قالت : فلما كان بعد ذلك ، قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد كان الناس ينتفعون بضحاياهم ، ويجملون منها الودك ، ويتخذون منها الأسقية . فقال رسول الله وما ذلك ، أو كما قال : قالوا : نهيت عن لحوم الضحايا بعد ثلاث . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت عليكم . فكلوا ، وتصدقوا ، وادخروا .

                                                                                                                        [ ص: 168 ] يعني بالدافة ، قوما مساكين قدموا المدينة .

                                                                                                                        1005 - مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن أبي سعيد الخدري ; أنه قدم من سفر فقدم إليه أهله لحما . فقال : انظروا أن يكون هذا من لحوم الأضحى . فقالوا : هو منها . فقال أبو سعيد : ألم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه ؟ فقالوا : إنه قد كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدك ، أمر . فخرج أبو سعيد ، فسأل عن ذلك . فأخبر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : نهيتكم عن لحوم الأضحى بعد ثلاث . فكلوا ، وتصدقوا ، وادخروا . ونهيتكم عن الانتباذ ، فانتبذوا . وكل مسكر حرام . ونهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها . ولا تقولوا هجرا .

                                                                                                                        [ ص: 169 ] يعني لا تقولوا سوءا .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        21433 - قال أبو عمر : أما حديث أبي الزبير في أول هذا الباب ، فليس فيه أكثر من بيان الناسخ والمنسوخ في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أمر لا خلاف بين علماء المسلمين فيه في القرآن والسنة .

                                                                                                                        21434 - وقد تكلمنا على أهل الزيغ ، والإلحاد المنكرين لذلك في التمهيد .

                                                                                                                        [ ص: 170 ] 21435 - وأما حديثه عن عبد الله بن أبي بكر ، ففيه بيان أن النفي عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث لم يكن عبادة ، فنسخت ، وإنما كان لعلة الدافة .

                                                                                                                        21436 - ومعنى الدافة : قوم قدموا المدينة في ذلك الوقت مساكين أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحسن إليهم أهل المدينة ، وأن يتصدقوا عليهم .

                                                                                                                        21437 - وقد ذكرنا الآثار ، والشواهد بهذا المعنى في " التمهيد " .

                                                                                                                        21438 - وفي حديث الموطأ ، كفاية فيما وصفنا .

                                                                                                                        21439 - قال الخليل : الدافة : قوم يدفون ، أي يسيرون سيرا لينا .

                                                                                                                        21440 - وأما قوله : ويجملون منها الودك ، فمعناه يذيبون منها الشحم ، وهو [ ص: 171 ] الودك ، يقال منه : جملت الشحم ، وأجملته ، واجتملته : إذا أذبته .

                                                                                                                        21441 - والاجتمال أيضا الادهان بالجميل وهي الإهالة .

                                                                                                                        21442 - وأما حديث ربيعة ، عن أبي سعيد الخدري ، منقطع ، لأن ربيعة لم يلق أبا سعيد ، وهو يستند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق ، قد ذكرنا منها كثيرا في التمهيد .

                                                                                                                        21443 - وقد رواه القاسم بن محمد ، عن أبي سعيد الخدري .

                                                                                                                        21444 - ومعلوم أن ملازمة ربيعة القاسم حتى كان يغلب على مجلسه .

                                                                                                                        21445 - وحديث القاسم رواه يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن القاسم .

                                                                                                                        [ ص: 172 ] 21446 - حدثناه عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني الخشني ، قال : حدثني ابن أبي عمر ، قال حدثني سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد أن أبا سعيد الخدري قدم من سفر ، ووجد عند أهله شيئا من لحم الأضحية ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا له : إنه حدث بعدك فيه أمر فخرج ، فلقي أخا له من أمه ، يقال له : قتادة بن النعمان قد شمر برداء ، فقال له : إنه قد حدث بعدك أمر ، يقول : إنه قد أذن في أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث .

                                                                                                                        21447 - وهذا أصح من رواية من روى في هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                        21448 - والصحيح - والله أعلم - أنه روى النسخ في هذا الحديث عن أخيه لأمه قتادة بن نعمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                        21449 - وقد رواه عن النبي - عليه السلام - علي بن أبي طالب ، وبريدة الأسلمي ، وجابر ، وأنس ، وغيرهم .

                                                                                                                        [ ص: 173 ] 21450 - وقد ذكرنا أحاديثهم في " التمهيد " .

                                                                                                                        21451 - وفيه من الفقه ، إشفاق العالم على دينه ، وتعليمه أهله ما يظن أنه يحملونه منه وترك الإقدام على ما حاك في صدره .

                                                                                                                        21452 - وفيه : أن النهي عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث منسوخ ، بإباحة ذلك .

                                                                                                                        21453 - وهذا لا خلاف فيه بين علماء المسلمين .

                                                                                                                        21454 - وأما قوله : فكلوا وتصدقوا ، وادخروا ، فكلام خرج بلفظ الأمر ، ومعناه الإباحة ، لأنه أمر ورد بعد نهي .

                                                                                                                        21455 - وهكذا شأن كل أمر يرد بعد حصر أنه إباحة ، لا إيجاب .

                                                                                                                        21456 - مثل قوله : وإذا حللتم فاصطادوا [ المائدة : 2 ] .

                                                                                                                        21457 - فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض [ الجمعة : 10 ] .

                                                                                                                        21458 - وكان بعض أهل العلم يستحب أن يأكل الإنسان من ضحيته ثلثها ، ويصدق بثلثها ، ويدخر ثلثها ؟ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : كلوا ، وتصدقوا ، وادخروا .

                                                                                                                        21459 - وكان ممن ذهب إلى هذا الاستحباب : الشافعي - رحمه الله .

                                                                                                                        [ ص: 174 ] 21460 - وكان غيره يستحب أن يأكل نصفا ويطعم نصفا ، لقول الله تعالى في الهدايا : فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر الحج : 36 .

                                                                                                                        21461 - وكان مالك - رحمه الله - لا يجد في ذلك شيئا ، ويقول : يأكل ويتصدق .

                                                                                                                        21462 - والدليل على أن هذا استحباب لا إيجاب حديث ثوبان قال : ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحيته ، ثم قال : يا ثوبان أصلح لحم هذه الأضحية ، قال : فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة .

                                                                                                                        21463 - وفي حديث ثوبان هذا ادخار لحم الضحية ، وأكله .

                                                                                                                        21464 - وفيه الضحية في السفر ، وقد ذكرناه بإسناده في " التمهيد " .

                                                                                                                        21465 - وأما قوله : ونهيتكم عن الانتباذ ، فانتبذوا ، وكل مسكر حرام ، فإنه أراد الانتباذ في الأوعية المنهي عنها ، وهي النقير ، والمزفت ، والدباء ، والحنتم ، [ ص: 175 ] والجر ، وهو كل شيء يصنع من طين ; لأن هذه الأوعية إذا تكرر فيها الانتباذ أسرعت إلى ما ينبذ فيه الشدة .

                                                                                                                        21466 - وقد تواترت الآثار بالنهي عن الانتباذ في هذه الأوعية عن النبي - عليه السلام - من طرق صحاح ، وإنما كان النبي - عليه السلام - وأصحابه ، وسائر السلف الصالح ينتبذون في أسقية الأدم خاصة ; لأنها لا تسرع الشدة إلى ما ينتبذ فيها .

                                                                                                                        21467 - وقد كان عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر لا يجوزان الانتباذ في شيء من الأوعية غير الأسقية ، وذلك أنهما رويا النهي عنها ، ولم يرويا النسخ - والله أعلم - فيهما على ما علما .

                                                                                                                        21468 - وإلى هذا ذهب سفيان الثوري ، فلم يجز الانتباذ في الدباء ، والحنتم ، والنقير ، والمزفت .

                                                                                                                        21469 - وكان الشافعي يكره الانتباذ في هذه الأوعية المذكورة في الأحاديث المأثورة .

                                                                                                                        21470 - وقال ابن القاسم : كره مالك الانتباذ في الدباء ، والمزفت ، ولم يكره غير ذلك .

                                                                                                                        [ ص: 176 ] 21471 - قال أبو عمر : أظن هؤلاء الأئمة إنما كرهوا الانتباذ في الأوعية المسماة في الأحاديث ; لأنهم علموا أن النهي عنها لعلة ما تولده من إسراع الشدة في الأنبذة مع علمهم أن كل مسكر حرام ، فخافوا مواقعة الحرام على الأمة ، وعلموا أن النسخ إنما هو لمن يحفظ ، فاحتاطوا ، وبنوا على أصل النهي ، ولم يقبلوا رخصة النسخ ، والله أعلم .

                                                                                                                        21472 - حدثني محمد ، قال : حدثني علي بن عمر ، قال : حدثني عمر ، قال : حدثني الحسن بن إسماعيل بن أحمد بن عتاب ، قال : حدثني الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان ، قال : حدثني هشام بن عمار ، قال حماد بن عبد الرحمن الطيالسي قال : حدثني حماد بن خوار الضبي ، عن عبد الله بن بريدة الأسلمي ، عن أبيه قال : خطبنا رسول الله تحت الشجرة تصيب أغصانها وجهه ، وقال : ألا إنا كنا نهيناكم عن ثلاث : عن زيارة القبور ، فزوروها ، فإنها عبرة ، ونهيناكم عن لحمان الأضاحي أن تأكلوها بعد ثلاث ، فأصلحوها ، وكلوها ، ونهيناكم عن الأنبذة إلا في أسقية الأدم التي يؤكل عليها ، فانتبذوا فيما شئتم ، وكل مسكر حرام " .

                                                                                                                        [ ص: 177 ] 21473 - وأما أبو حنيفة ، وأصحابه ، فقالوا : لا بأس بالانتباذ في جميع الأوعية ; لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد النهي : كنت نهيتكم فانتبذوا فيما شئتم ، أو فيما بدا لكم .

                                                                                                                        21474 - وقد ذكرنا الآثار بالنسخ من طرق متواترة في " التمهيد " .

                                                                                                                        21475 - وأما قوله في الحديث : وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، فإن العلماء اختلفوا في ذلك على وجهين : 21476 - فقال بعضهم : كان النهي عن زيارة القبور عاما للرجال والنساء ، ثم ورد النسخ كذلك بالإباحة عاما أيضا ، فدخل في ذلك الرجال ، والنساء .

                                                                                                                        21477 - واحتجوا بأن عائشة زارت قبر أخيها عبد الرحمن ، وكانت فاطمة تزور قبر حمزة .

                                                                                                                        21478 - وقد ذكرنا الآثار عنهما بذلك في " التمهيد " .

                                                                                                                        21479 - وقال آخرون : إنما ورد النسخ في زيارة القبور للنساء ، لا للرجال لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن زوارات القبور ، ونحن على يقين من تحريم [ ص: 178 ] زيارة النساء للقبور بذلك ، ولسنا على يقين من الإباحة لهن ; لأنه ممكن أن تكون الزيارة أبيحت للرجال دونهن للقصد في ذلك باللعن إليهن .

                                                                                                                        21480 - وذكروا من الحجة على ما ذهبوا إليه في ذلك حديث شعبة ، عن محمد بن جحادة ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، قال : لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور ، والمتخذين عليها المساجد ، والسرج .

                                                                                                                        21481 - قال أبو عمر : أبو صالح هذا هو باذام ، ويقال : باذان بالنون ، وهو مولى أم هانئ .

                                                                                                                        [ ص: 179 ] 21482 - وحديث أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : لعن رسول الله زوارات القبور .

                                                                                                                        21483 - وقد ذكرنا أسانيدها في " التمهيد " .




                                                                                                                        الخدمات العلمية