الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1582 1559 - مالك ، أن أبا الزناد أخبره ؛ أن عاملا لعمر بن عبد العزيز أخذ ناسا في حرابة ، ولم يقتلوا أحدا ، فأراد أن يقطع أيديهم أو يقتل فكتب [ ص: 198 ] إلى عمر بن عبد العزيز في ذلك ، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : لو أخذت بأيسر ذلك .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        36021 - قال أبو عمر : ليس في " الموطأ " مثله في المحاربين غير هذه ، وهي لمحة كما ترى ، فلنذكر أحكام المحاربين بأخصر ما يقدر عليه بعون الله عز وجل .

                                                                                                                        36022 - وأما قول عمر بن عبد العزيز لعامله في المحاربين الذين لم يقتلوا : لو أخذت بأيسر ذلك ، فيدل على أنه كان يذهب إلى تخيير الإمام في عقوبة المحاربين على ظاهر القرآن ؛ قوله عز وجل : ( أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) الآية [ المائدة : 33 ] .

                                                                                                                        36023 - فقالت طائفة : قد اختلف السلف ، ومن بعدهم من العلماء ، في حكم المحارب إذا أخذ في حرابته قبل أن يتوب ، واختلفوا في من عنى الله عز وجل بقوله : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا ) الآية [ المائدة : 33 ] .

                                                                                                                        36024 - فقالت طائفة منهم : نزلت في الكفار المرتدين الذين أغاروا على لقاح رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقتلوا الرعاة ، وكفروا بعد إيمانهم ، فمن كفر بالله [ ص: 199 ] من بعد إيمانه ، فقد حارب الله عز وجل ورسوله ، فإذا جمع السعي في الأرض بالفساد ، وهو الخروج عن المسلمين ، وقطع الطريق ، وإخافة السبل ، فهو ممن عني بالآية .

                                                                                                                        36025 - واحتجوا بحديث أنس ، رواه ثابت البناني وأبو قلابة ، وقتادة بن دعامة عن أنس ، أن نفرا من عكل ، وعرينة قدموا المدينة فتكلموا بالإسلام ، وكانوا أهل ضرع ، ولم يكونوا أهل إلف فاجتووا المدينة ، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بزود ولقاح ، وأن يخرجوا من المدينة فيشربوا من ألبانها وأبوالها .

                                                                                                                        36026 - وقال بعضهم ، في هذا الحديث : فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة ، فيشربوا من ألبانها وأبوالها فانطلقوا ، فلما كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم ، وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل مرتدين ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم فأدركوا ، وأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، ومنهم من يقول ، وسمر أعينهم ، وتركوا بناحية الحرة يكدمون حجارتها حتى ماتوا .

                                                                                                                        [ ص: 200 ] 36027 - قال قتادة : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ) الآية [ المائدة : 33 ] .

                                                                                                                        36028 - وممن قال : إن الآية نزلت في أهل الكفر ؛ الحسن ، وعطاء .

                                                                                                                        [ ص: 201 ] 36029 - وقال أكثر أهل العلم : نزلت في كل من قطع الطريق ، وأخاف السبيل ، وأخذ المال ؛ قتل أو لم يقتل على ما نذكر .

                                                                                                                        36030 - فمن اختلافهم في جزاء المحارب ، هل هو على الاستحقاق ، أو على تخيير الإمام فيه ؟ .

                                                                                                                        36031 - وأنكر الفقهاء أن تكون الآية نزلت في أهل الشرك ؛ لأن الله عز وجل قال في المحاربين : ( إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ) [ المائدة : 34 ] .

                                                                                                                        36032 - وقد أجمع علماء المسلمين على أن الكفار إذا انتهوا ، وتابوا من كفرهم ، غفر لهم كل ما سلف ، وسقط عنهم كل ما كان لزمهم في حال الكفر من حقوق الله عز وجل ، وحقوق المسلمين قبل أن يقدروا عليهم ، وبعد أن يقدروا عليهم ، ويصيروا في أيدي المسلمين فلا يحل قتلهم بإجماع المسلمين ، ولا يؤخذ بشيء جنوه في مال أو دم ، فدل ذلك على أن الآية لم تنزل في أهل الشرك والكفر .

                                                                                                                        36033 - وهذا هو الصحيح ؛ لأن المحاربين يؤخذون بكثير من ذلك ، مما يؤخذ منهم لإجماع العلماء ما وجد في أيديهم من أموال المسلمين ، وأهل الذمة أيضا .

                                                                                                                        [ ص: 202 ] 36034 - وقال مالك : يؤخذون بالدم إذا طلبه وليه .

                                                                                                                        36035 - وقال الليث : لا يؤخذون به .

                                                                                                                        36036 - وقال الشافعي : تضع عن المحارب توبته حد الله عز وجل الذي وجب لمحاربته ، ولا تسقط عنه حقوق بني آدم .

                                                                                                                        36037 - وقال أبو حنيفة : إن لم يقدر الإمام على قطاع الطريق ، حتى جاءوا تائبين ، وضعت عنهم حقوق الله عز وجل التي كانت تقام عليهم لو لم يتوبوا ، ويرجع حكم ما أصابوا من القتل والجراح إلى أولياء المقتولين والمجروحين ؛ فيكون حكمهم في ذلك كحكمهم لو أصابوا ذلك على غير قطع الطريق .

                                                                                                                        36038 - قال أبو عمر : هذا كله ليس هو الحكم عند أحد من العلماء فيمن أسلم من الكفار قبل أن يقدر عليه ، فدل ذلك على فاسد قول من قال : نزلت الآية في أهل الشرك .

                                                                                                                        36039 - وقال الفقهاء ، وأهل اللغة : معنى قوله عز وجل : ( يحاربون الله ) [ المائدة : 33 ] . يحاربون أهل دين الله عز وجل .

                                                                                                                        36040 - وأما اختلاف العلماء في جزاء المحاربين ؛ هل هو على قدر [ ص: 203 ] الاستحقاق ؟ أم على تخيير الإمام ؟ .

                                                                                                                        [ ص: 204 ] 36041 - فروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وإبراهيم أن الإمام مخير ، يحكم فيهم بما شاء من الأوصاف التي ذكر الله عز وجل في الآية من القتل ، أو الصلب ، أو القطع أو النفي .

                                                                                                                        36042 - و " أو " عند هؤلاء للتخيير .

                                                                                                                        36043 - وممن قال بذلك ؛ مالك ، والليث ، وأبو ثور .

                                                                                                                        36044 - قال مالك : ذلك إلى اجتهاد الإمام ؛ يستشير بذلك أهل العلم والرأي والفضل ، على قدر جرم المحارب وإفساده .

                                                                                                                        36045 - وليس ذلك إلى سوى الإمام .

                                                                                                                        36046 - قال مالك : الفساد في الأرض : القتل ، وأخذ المال ؛ قال الله عز [ ص: 205 ] وجل : ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) [ البقرة : 205 ] .

                                                                                                                        36047 - وقال عز وجل : ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ) [ المائدة : 32 ] .

                                                                                                                        36048 - قال أبو عمر : معناه أو بغير فساد في الأرض ، فدل على أن الفساد في الأرض وإن لم يكن قتلا ، فهو كالقتل ، والفساد المجتمع عليه هنا قطع الطريق ، وسلب المسلمين ، وإخافة سبلهم .

                                                                                                                        36049 - والقول الثاني ؛ أن الحكم في المحارب ، أنه إن قتل قتل ، وإن أخذ المال وقتل ، قتل وصلب ، وإن أخذ المال ، ولم يقتل ، قطعت يده ورجله من خلاف ، وإن أخاف السبيل فقط ، لم يكن عليه غير النفي .

                                                                                                                        36050 - وروي هذا أيضا عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي ، والحسن البصري .

                                                                                                                        36051 - وهو قول أبي مجالد ، والضحاك ، وسعيد بن جبير ، وقتادة .

                                                                                                                        36052 - وهو قول أهل العلم .

                                                                                                                        [ ص: 206 ] 36053 - و " أو " عند هؤلاء للتفضيل .

                                                                                                                        36054 - وإلى هذا ذهب الشافعي ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي ، وأصحابهما ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق .

                                                                                                                        36055 - وقال الشافعي : تقام عليهم الحدود ؛ على قدر اختلاف أفعالهم ، من قتل منهم وأخذ المال قتل وصلب ، وإذا قتل ولم يأخذ مالا قتل ، ودفع إلى أوليائه يدفنونه ، ومن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ، في مكان واحد ، وحسم على عضوه بالنار قبل أن يقطع الآخر ، ومن حضر ، وكثر ، وهيب ، وكان ردءا عزر وحبس .

                                                                                                                        36056 - قال أبو عمر : نحو هذا قول الكوفيين وسائر من ذكرنا من الفقهاء ، والنفي عندهم ، أن يحبسوا حتى يحدثوا توبة .

                                                                                                                        36057 - وقال مالك : النفي أن يخرج إلى بلد آخر ، ويحبس هناك في السجن .

                                                                                                                        [ ص: 207 ] 36058 - وقال يحيى بن سعيد الأنصاري : ينفى من بلده إلى بلد غيره ، ولم يذكر حبسا .

                                                                                                                        36059 - وقال عبد الملك بن الماجشون : قول أبي ، وابن دينار ، والمغيرة ، أن نفي المحارب إنما هو أن يطلبه الإمام ؛ لإقامة الحد عليه فيهرب ، وليس كنفي الزاني البكر .

                                                                                                                        36060 - وهو قول ابن شهاب .

                                                                                                                        36061 - قال أبو عمر : في صلب المحارب أقوال لأهل العلم ، وكذلك في نفيه أيضا لأهل العلم أقوال واعتلالات وتوجيهات ، واختصرنا ذلك كله ؛ خوف الإطالة ، وشرطنا الاختصار والإشارة إلى ما أشار إليه مالك رحمه الله .




                                                                                                                        الخدمات العلمية