الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        26 24 - مالك ، عن زيد بن أسلم ، أنه قال : عرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة بطريق مكة ، ووكل بلالا أن يوقظهم للصلاة ، فرقد بلال ، ورقدوا حتى استيقظوا وقد طلعت عليهم الشمس ، فاستيقظ القوم ، وقد فزعوا ، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي ، وقال : " إن هذا واد به شيطان " فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي ، ثم أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزلوا ، وأن يتوضؤوا ، وأمر بلالا أن ينادي بالصلاة ، أو يقيم ، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس ، ثم انصرف إليهم ، وقد رأى من فزعهم ، فقال : " يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ، ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا ، فإذا رقد أحدكم عن الصلاة ، أو نسيها ، ثم فزع إليها ، فليصلها كما كان يصليها في وقتها " .

                                                                                                                        [ ص: 328 ] ثم التفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بكر فقال : " إن الشيطان أتى بلالا وهو قائم يصلي فأضجعه ، فلم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام " ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا ، فأخبر بلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل الذي أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر ، فقال أبو بكر : أشهد أنك رسول الله "
                                                                                                                        .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        825 - وقد ذكرنا هذا الحديث متصلا مسندا من وجوه كثيرة في " التمهيد " بمعان متقاربة .

                                                                                                                        [ ص: 329 ] 826 - وفيها ما يدل على أن نومه - عليه السلام - كان منه مرة واحدة .

                                                                                                                        827 - ويحتمل أن يكون مرتين ; لأن في حديث ابن مسعود : أنا أوقظكم .

                                                                                                                        828 - وقد يمكن أن رسول الله لم يجبه إلى ذلك ، وأمر بلالا أن يوقظهم ; لأن في أكثر الأحاديث أن بلالا كان موكلا بذلك على ما في حديثي مالك .

                                                                                                                        829 - وفي بعض الأحاديث أن ذلك النوم كان منه - عليه السلام - زمن الحديبية ، وفي بعضها : زمن خيبر ، وفي بعضها : بطريق مكة .

                                                                                                                        830 - ويشبه أن يكون كل واحدا ; لأن عمرة الحديبية كانت زمن خيبر وهو طريق مكة لمن شاء ، ويجوز أن يكون غير ذلك ، والله أعلم .

                                                                                                                        831 - وأما قول عطاء بن يسار : إن ذلك كان في غزوة تبوك فليس بشيء ، وأحسبه وهما ، والله أعلم .

                                                                                                                        832 - وقد ذكرنا الآثار بذلك في " التمهيد " وقد مضى معنى : التعريس ، وكثير من معاني ألفاظ هذا الحديث فيما تقدم من القول في الحديث الذي قبله .

                                                                                                                        833 - وقوله في هذا الحديث : " فاستيقظ رسول الله وقد فزعوا " تفسيره قوله فيه : " ثم انصرف إليهم وقد رأى من فزعهم ، فقال : يا أيها الناس ، إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا في حين غير هذا " .

                                                                                                                        [ ص: 330 ] 834 - وهذا القول منه لما رأى من فزعهم دليل على أن فزعهم لم يكن من أجل عدو يخشونه ، ولو كان فزعهم من العدو كما زعم بعض أصحابنا ممن فسر الموطأ : أن فزعهم كان من خوف العدو لما قال لهم هذا القول .

                                                                                                                        835 - والوجه عندي في فزعهم أنه كان وجلا وإشفاقا على ما قدمنا ذكره ، ولم يكونوا علموا سقوط المأثم عن النائم ، وعدوه تفريطا .

                                                                                                                        836 - فلذلك قال لهم - عليه السلام - : " ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط في اليقظة " .

                                                                                                                        837 - وقد ذكرنا الخبر بذلك فيما مضى من هذا الباب .

                                                                                                                        838 - وقد تقدم خروجهم من هذا الوادي ، وما ذهب إليه أهل الحجاز وأهل العراق في ذلك .

                                                                                                                        839 - وفي حديث ابن شهاب : " فاقتادوا رواحلهم " .

                                                                                                                        840 - وفي حديث زيد بن أسلم : " فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي " .

                                                                                                                        841 - وهذا يحتمل أن يكون بعضهم اقتاد راحلته ، وبعضهم ركب على ما فهموا من أمره بذلك كله ; لأن في حديث ابن شهاب " فاقتادوا " وفي حديث زيد بن أسلم " فركبوا " .

                                                                                                                        [ ص: 331 ] 842 - وليس في ذلك تعارض ولا تدافع ، وممكن أن يجري من القول ذلك كله .

                                                                                                                        843 - وفي رواية ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح ، في حديث نوم النبي - عليه السلام - عن صلاة الصبح في السفر قال : " فركع ركعتين في معرسه ، ثم سار ساعة ، ثم صلى الصبح " .

                                                                                                                        844 - قال ابن جريج : فقلت لعطاء بن أبي رباح : أي سفر كان ؟ قال : لا أدري .

                                                                                                                        845 - قال أبو عمر : في سيره - عليه السلام - بعد أن ركع ركعتي الفجر أوضح دليل على أن خروجه من ذلك الوادي ، وتركه للصلاة كان لبعض ما وصفنا في الحديث قبل هذا ، لا لأنه انتبه حين بدا حاجب الشمس كما زعم أهل الكوفة ; لأنه معلوم أن الوقت الذي تحل فيه صلاة النافلة والصلاة المسنونة أحرى أن تحل فيه صلاة الفريضة .

                                                                                                                        846 - واختلف القائلون بقول الحجازيين : فقال بعضهم : من نام عن الصلاة في سفره ثم انتبه بعد خروج الوقت لزمه الزوال عن ذلك الموضع .

                                                                                                                        847 - وإذا كان واديا خرج عنه لقوله - عليه السلام - : اركبوا واخرجوا من هذا الوادي ، إن ( الشيطان ) هدأ بلالا كما يهدأ الصبي .

                                                                                                                        [ ص: 332 ] 848 - قال : فكل موضع يصيب المسافرين فيه مثل ما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في ذلك الموضع من النوم عن الصلاة حتى يخرج وقتها فينبغي الخروج ( منه ) وإقامة الصلاة في غيره ; لأنه موضع مشؤوم ملعون ، كما روي عن علي قال : " نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أصلي بأرض بابل ; فإنها ملعونة " .

                                                                                                                        849 - وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لما أتى وادي ثمود أمر الناس فأسرعوا وقال : هذا واد ملعون . وقد روي أنه أمر بالعجين الذي عجن بماء ذلك الوادي فطرح " .

                                                                                                                        850 - وقال آخرون منهم : أما ذلك الوادي وحده إن علم وعرض فيه مثل ذلك العارض فواجب الخروج منه على ما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما سائر المواضع فلا .

                                                                                                                        851 - وذلك الموضع وحده مخصوص بذلك ; لأن الله تعالى قال : " وأقم الصلاة لذكري " .

                                                                                                                        852 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " .

                                                                                                                        853 - ولم يخص الله ولا رسوله موضعا من المواضع إلا ما جاء في ذلك الوادي خاصة .

                                                                                                                        [ ص: 333 ] 854 - وقال آخرون : كل من انتبه من نوم ، أو ذكر بعد نسيان ، أو ترك صلاة عمدا ثم ثاب إلى أدائها ، فواجب على كل واحد منهم أن يقيم صلاته تلك بأعلى ما يمكنه في كل موضع ذكرها فيه : واديا كان ، أو غير واد .

                                                                                                                        855 - وذلك أن الموضع الطاهر ( في واد تؤدى الصلاة فيه ) وسواء ذلك الوادي وغيره ; لأن قوله - عليه السلام - : " إن هذا واد به شيطان " خصوص له لا يشركه فيه غيره ; لأنه كان يعلم من حضور الشياطين بالمواضع ما لا يعلم غيره ، ولعل ذلك الوادي لم يحضره ذلك الشيطان إلا في ذلك الوقت .

                                                                                                                        856 - وذكر إسماعيل في " المبسوط " عن الحكم بن محمد ، عن محمد بن مسلم قال : ليس على من نام عن الصلاة في واد أن يؤخرها حتى يخرج من ذلك الوادي ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن هذا واد به شيطان " .

                                                                                                                        [ ص: 334 ] 857 - ولا يعلم الناس من ذلك الوادي ولا من غيره ما يعلم من ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " فإن الله يقول : " وأقم الصلاة لذكري " .

                                                                                                                        [ ص: 335 ] 858 - قال أبو عمر : الذي عليه العمل عندي وفيه الحجة لمن اعتصم به قوله - عليه السلام - : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " .

                                                                                                                        859 - ولم يخص واديا من غيره في هذا الحديث .

                                                                                                                        860 - وفي قوله - عليه السلام - : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ما يبيح الصلاة في المقبرة ، والمزبلة ، والحمام ، وقارعة الطريق ، وبطون الأودية ، إذا سلم كل ذلك من النجاسة ; لأن قوله ذلك ناسخ لكل ما خالفه .

                                                                                                                        861 - ولا يجوز أن ينسخ بغيره ; لأن ذلك من فضائله - عليه السلام - وفضائله لا يجوز عليها النسخ ; لأنها لم تزل تترى به حتى مات ولم يبتز شيئا منها ، بل كان يزاد فيها .

                                                                                                                        862 - ألا ترى أنه كان عبدا غير نبي ، ثم نبأه الله ، ثم أرسله فصار رسولا نبيا ، ثم غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ووعده أن يبعثه المقام المحمود الذي يبين به فضله عن سائر الأنبياء قبله ؟

                                                                                                                        [ ص: 336 ] 863 - وفي كل ما قلنا من ذلك جاءت الآثار عنه - عليه السلام - قال : " كنت عبدا قبل أن أكون نبيا ، وكنت نبيا قبل أن أكون رسولا " .

                                                                                                                        864 - ومما يوضح ما قلنا أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر الله عنه في أول أمره أنه قال : " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " ( الأحقاف : 9 ) .

                                                                                                                        865 - وقال : " لا يقل أحدكم إني خير من يونس بن متى " .

                                                                                                                        866 - وقال له رجل : ما خير البرية ؟ فقال : " ذلك إبراهيم " .

                                                                                                                        867 - ثم شك في نفسه وفي موسى - عليه السلام - فلم يدر من تنشق الأرض عنه قبل .

                                                                                                                        [ ص: 337 ] 868 - وقال له رجل : أنت الكريم ابن الكرماء ، فقال : " ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " .

                                                                                                                        869 - ثم لما غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأخبر أنه يبعث المقام المحمود قال : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " .

                                                                                                                        [ ص: 338 ] 870 - فلذلك قلنا : إن فضائله لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص .

                                                                                                                        871 - ألا ترى إلى قوله - عليه السلام - " أوتيت خمسا " وقد روي " ستا " وروي فيه ( ثلاثا ) و ( أربعا ) وهي تنتهي إلى أكثر من سبع قال : فيهن : " لم يؤتهن أحد قبلي : بعثت إلى الأحمر والأسود ، ونصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت أمتي خير الأمم ، وأحلت لي الغنائم لم تحل لأحد قبلي ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأتيت الشفاعة ، وبعثت بجوامع الكلم ، وبينا أنا نائم [ ص: 339 ] أوتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت بين يدي ، وزويت لي مشارق الأرض ومغاربها ، وأعطيت الكوثر وهو خير كثير وعذب ، ولي حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد نجوم السماء ، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا ، وختم بي النبيون " .

                                                                                                                        872 - فهذه كلها فضائل خص بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها قوله : " جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا " .

                                                                                                                        873 - وهذه الخصال رواية جماعة من الصحابة ، وبعضهم يذكر ما لم يذكره غيره ، وهي صحاح ، ورويت في آثار شتى .

                                                                                                                        874 - فلذلك قلنا : إن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ناسخ للصلاة في ذلك الوادي وغيره ، وفي كل موضع من الأرض طاهر .

                                                                                                                        875 - وقد ذكرنا في " التمهيد " اختلاف الفقهاء في الصلاة في المقبرة والحمام ، وأتينا بالحجة من طريق الآثار والاعتبار على من قال : إنها مقبرة المشركين في باب " مرسل زيد بن أسلم " من " التمهيد " والحمد لله .

                                                                                                                        876 - ولما لم يجز أن يقال في نهيه عن الصلاة في المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، والحمام ، ومحجة الطريق ، ومعاطن الإبل ، مزبلة كذا ، [ ص: 340 ] ولا مجزرة كذا ، ولا حمام كذا ، فكذلك لا يجوز أن يقال : مقبرة كذا ، ولا أن يقال : مقبرة المشركين ، فلا حجة ولا دليل .

                                                                                                                        877 - وأقام الدليل على أن مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناه في مقبرة المشركين .

                                                                                                                        878 - وقد أوضحنا هذا الحديث بما فيه كفاية في باب " مرسل زيد بن أسلم " من " التمهيد " .

                                                                                                                        879 - وأما قوله في مرسل حديث زيد هنا : " ثم أمر بلالا أن يؤذن أو يقيم " فهكذا رواه مالك على الشك .

                                                                                                                        880 - وقد مضى ما للعلماء من التنازع والأقوال في الأذان للفوائت من الصلوات في الحديث قبل هذا .

                                                                                                                        881 - ومضى المعنى في النفس والروح فلا معنى لإعادة ذلك هنا .

                                                                                                                        882 - وأما قوله : " فإذا رقد أحدكم عن الصلاة ، أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها إذا ذكرها كما كان يصليها في وقتها " فقد مضى ما لمالك وأصحابه والكوفيين في تأويل ذلك .

                                                                                                                        [ ص: 341 ] 883 - وتقدم أيضا قولهم في استنباطهم من قوله - عليه السلام - : " فليصلها إذا ذكرها " وجوب ترتيب الصلوات الفوائت إذا كانت صلاة يوم وليلة .

                                                                                                                        884 - وقول الشافعي ومن تابعه في إسقاط وجوب الترتيب في ذلك ، وتأويل الحديث عندهم وما ذهب إليه كل فريق منهم ، ووجوه أقوالهم ، وتلخيص مذاهبهم ، كل هذا في هذا الباب مجود ، والحمد لله ، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك هنا ، والله الموفق للصواب .




                                                                                                                        الخدمات العلمية