الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        514 30 - مالك ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس .

                                                                                                                        [ ص: 380 ]

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        [ ص: 380 ] 1037 - قال أبو عمر : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس من حديث عمر بن الخطاب ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري ، وسعد بن أبي وقاص ، ومعاذ ابن عفراء ، وغيرهم ، وهي أحاديث صحاح لا مدفع فيها ، إلا أن العلماء اختلفوا في تأويلها وفي خصوصها وعمومها ، واختلف العلماء في هذا الباب اختلافا كثيرا ، لاختلاف الآثار فيه .

                                                                                                                        1038 - فقال منهم قائلون : لا بأس بالتطوع بعد الصبح وبعد العصر ; لأن النهي إنما قصد به إلى ترك الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها ، وذكروا مثل حديث الصنابحي وشبهه .

                                                                                                                        1039 - قالوا : فالنهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر هذا معناه ؛ لإجماع المسلمين على الصلاة على الجنائز بعد الصبح وبعد العصر ، إذا لم يكن عند طلوع الشمس ولا عند غروبها .

                                                                                                                        1040 - قالوا : وإنما خرج النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر على قطع الذريعة ; لأنه لو أبيحت الصلاة النافلة بعد الصبح وبعد العصر لم يؤمن التمادي فيها إلى حين طلوع الشمس وغروبها .

                                                                                                                        [ ص: 381 ] 1041 - هذا مذهب عبد الله بن عمر ، وقال به جماعة .

                                                                                                                        1042 - ذكر عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن نافع أنه سمع ابن عمر يقول : أما أنا فلا أنهى أحدا يصلي من ليل أو نهار أي ساعة شاء غير ألا يتحرى طلوع الشمس ولا غروبها .

                                                                                                                        1043 - وهو قول عطاء ، وطاوس ، وعمرو بن دينار ، وابن جريج .

                                                                                                                        1044 - وروي عن ابن مسعود نحوه .

                                                                                                                        1045 - ومذهب عائشة في ذلك كمذهب ابن عمر .

                                                                                                                        1046 - وروى ابن وهب ، عن ابن طاوس ، عن أبيه عن عائشة ، قالت : أوهم ابن عمر إنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة أن يتحرى بها طلوع الشمس وغروبها .

                                                                                                                        [ ص: 382 ] 1047 - أخبرنا عبد الله بن أسد ، وعبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال : حدثنا إبراهيم بن جامع قال : حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا عفان بن مسلم ، ومحمد بن أبي نعيم قال : حدثنا ابن وهب ، عن خالد ، فذكره .

                                                                                                                        1048 - ومن حجة من قال بهذا القول حديث علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تصلوا بعد العصر إلا أن تكون الشمس بيضاء نقية " .

                                                                                                                        1049 - وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد .

                                                                                                                        1050 - وهو مذهب زيد بن خالد الجهني أيضا ; لأنه رآه عمر بن الخطاب يركع بعد العصر ركعتين ، فمشى إليه وضربه بالدرة ، فقال له : يا أمير المؤمنين اضرب ، فوالله لا أدعهما بعد أن رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما ، فقال له عمر : يا زيد ، لولا أني أخشى أن يتخذهما الناس سلما إلى الصلاة حتى الليل لم أضرب فيهما .

                                                                                                                        [ ص: 383 ] 1051 - وقد ذكرنا هذا الخبر وسائر أخبار هذا الباب في " التمهيد " .

                                                                                                                        1052 - وقد قيل : إن النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر إنما هو إعلام بألا يتطوع بعدهما ، ولم يقصد الوقت بالنهي كما قصد الشروق والغروب بالنهي عن الصلاة فيهما .

                                                                                                                        1053 - ألا ترى أنه جائز لمن جاء المسجد بعد صلاة العصر وهو لم يصل العصر أن يتطوع بركعتين وبأكثر قبل أن يصلي العصر ، ثم يصلي العصر والشمس بيضاء نقية ، ولا يجوز ذلك في تلك الساعة لمن قد صلى العصر والصبح .

                                                                                                                        1054 - وقال آخرون : أما الصلاة بعد الصبح إذا كانت نافلة أو سنة ولم تكن قضاء فرض فلا تجوز ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى تغرب الشمس نهيا مطلقا ، إلا أنه موقوف على كل ما عدا الفرض من الصلاة ; لحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس ، أو من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك ) يعني : الوقت .

                                                                                                                        1055 - وممن قال بهذا مالك بن أنس ، وأصحابه ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه .

                                                                                                                        1056 - قال أحمد وإسحاق : لا يصلى بعد العصر إلا صلاة فائتة ، أو صلاة على جنازة .

                                                                                                                        [ ص: 384 ] 1057 - ومذهب مالك في ذلك هو مذهب عمر بن الخطاب ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة ، وهم رووا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، وهم أعلم بما رووا .

                                                                                                                        1058 - وحسبك بضرب عمر على ذلك بالدرة ، ولا يكون ذلك إلا عن بصيرة .

                                                                                                                        1059 - وكذلك ابن عباس ، روى الحديث في ذلك عن عمر ، عن النبي - عليه السلام - قال به على ظاهره وعمومه .

                                                                                                                        1060 - حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا أحمد ، حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس قال : حدثني رجال مرضيون منهم عمر - وأرضاهم عندي عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس " .

                                                                                                                        1061 - وهذا الحديث هو أثبت الأحاديث ، رواه عن قتادة جماعة ، منهم شعبة ، وسعيد بن أبي عروبة ، وهشام الدستوائي ، وأبان العطار ، [ ص: 385 ] وهمام بن يحيى ، ومنصور بن زاذان ، ولم يختلفوا فيه ، وإليه ذهب ابن عباس : أنه سأله عن الركعتين بعد العصر فنهاه عنهما فقال : لا أدعهما فقال ابن عباس : " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " ( الأحزاب : 36 ) .

                                                                                                                        1062 - وقال الشافعي : إنما المعنى في نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر - التطوع المبتدأ أو النافلة ، وأما الصلوات المفروضات والمسنونات ، وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يواظب عليه من النوافل فلا .

                                                                                                                        1063 - واحتج أيضا بحديث قيس : حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري : رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ركعتي الفجر بعد السلام من الصبح فسكت عنه ، إذ أخبره أنهما ركعتا الفجر .

                                                                                                                        [ ص: 386 ] 1064 - وقد روي من حديث هشام بن سعد مثل ذلك .

                                                                                                                        1065 - واحتج أيضا بحديث أم سلمة ، وعائشة في الركعتين اللتين قضاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه قال : " يا بني عبد مناف ، لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار " .

                                                                                                                        [ ص: 387 ] 1066 - وأما أبو ثور فقال : لا يصلي أحد تطوعا بعد الفجر إلى أن تطلع الشمس إلى أن تزول ، ولا بعد العصر إلى أن تغرب الشمس إلا صلاة فائتة من الفرائض ، أو صلاة على جنازة ، أو على أثر طواف ، أو صلاة لبعض الآيات ، أو ما يلزم من الصلوات .

                                                                                                                        1067 - واحتج بكثير من آثار هذا الباب ، فيها حديث جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا بني عبد مناف " الحديث .

                                                                                                                        1068 - وقال آخرون : أما التطوع بعد العصر فجائز لحديث عائشة : " ما ترك رسول الله ركعتين بعد العصر في بيتي قط " .

                                                                                                                        1069 - وأما التطوع بعد الصبح فلا ; لأن الآثار غير ثابتة في ذلك .

                                                                                                                        1070 - وحديث عائشة صحيح ، والأصل ألا يعمل من عمل البر إلا بدليل لا معارض له ، وقد تعارضت الآثار في الصلاة بعد العصر ، فواجب الرجوع إلى قوله : " وافعلوا الخير " ( الحج : 77 ) والصلاة فعل خير ، فلا يمنع من فعلها إلا بما لا تعارض له ، هذا قول داود بن علي .

                                                                                                                        1071 - وقال آخرون : لا يصلى عند طلوع الشمس ، ولا بعد الصبح ، ولا بعد العصر ، ولا عند الغروب ، ولا عند الاستواء شيء من الصلوات كلها إلا عصر اليوم .

                                                                                                                        1072 - فهذا قول أبي حنيفة وأصحابه على ما قدمنا عنهم .

                                                                                                                        [ ص: 388 ] 1073 - وقال مالك : من طاف بالبيت بعد العصر أخر ركعتي الطواف حتى تغرب الشمس ، وكذلك من طاف بعد الصبح لم يركعهما حتى تطلع الشمس .

                                                                                                                        1074 - وقال أبو حنيفة : يركعهما إلا عند طلوع الشمس وغروبها واستوائها .

                                                                                                                        1075 - وبعض أصحاب مالك يرى الركوع للطواف بعد الصبح ، ولا يراه بعد العصر .

                                                                                                                        1076 - وهذا لا وجه له في النظر ، ولا يصح به أثر .

                                                                                                                        1077 - وحكم سجود التلاوة بعد الصبح والعصر عند الفقهاء كحكم الصلاة على أصولهم التي ذكرنا عنهم .

                                                                                                                        1078 - وأما السلف من الصحابة والتابعين ، فروينا عن ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزبير ، والحسن ، والحسين ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والقاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير : أنهم كانوا يطوفون بعد العصر ، وبعضهم بعد الصبح أيضا ، ويصلون بإثر فراغهم من طوافهم ركعتين في ذلك الوقت .

                                                                                                                        1079 - وبه قال الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود .




                                                                                                                        الخدمات العلمية