الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        414 387 - وحديثه بعد في هذا الباب عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " مروا أبا بكر فليصل للناس " فقالت عائشة : إن أبا بكر يا رسول الله ، إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل للناس ، قال : " مروا أبا بكر فليصل للناس " قالت عائشة : فقلت لحفصة : قولي له : إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء ، فمر عمر فليصل للناس ، ففعلت حفصة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل للناس " فقالت حفصة لعائشة : ما كنت لأصيب منك [ ص: 324 ] خيرا .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        9200 - ففيه من الفقه : أن القوم إذا اجتمعوا للصلاة فأحقهم وأولاهم بالإمامة فيها أفضلهم وأفقههم ; لأن أبا بكر قدمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة بجماعة أصحابه .

                                                                                                                        9201 - ومعلوم أنه كان منهم من هو أقرأ منه ولا سيما أبي بن كعب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وابن مسعود ، وزيد .

                                                                                                                        9201 - فهذه مسألة اختلف الفقهاء فيها .

                                                                                                                        [ ص: 325 ] 9203 - فقال مالك : يؤم القوم أعلمهم إذا كانت حالته حسنة ، وللمسن حق .

                                                                                                                        9204 - قيل له : فأكثرهم قرآنا ؟ 925 - قال : لا ، قد يقرأ القرآن من لا يكون فيه خير .

                                                                                                                        9206 - وقال الثوري : يؤمهم أقرؤهم ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن استووا ، فأسنهم .

                                                                                                                        [ ص: 326 ] 9207 - وقال الأوزاعي : يؤمهم أفقههم في دين الله .

                                                                                                                        9208 - وقال أبو حنيفة : يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله وأعلمهم بالسنة ، فإن استووا في العلم والقراءة فأكثرهم سنا ، فإن استووا في السن والقراءة والفقه فأورعهم .

                                                                                                                        9209 - وقال محمد بن الحسن وغيره : إنما قيل في الحديث أقرؤهم ; لأنهم أسلموا رجالا فتفقهوا فيما علموا من الكتاب والسنة ، وأما اليوم فيعلمون القرآن وهم صبيان لا فقه لهم .

                                                                                                                        9210 - وقد قال الليث بن سعد : يؤمهم أفضلهم وخيرهم ، ثم أقرؤهم ، ثم أسنهم إذا استووا .

                                                                                                                        9211 - وقال الشافعي : يؤمهم أقرأهم وأفقههم ، فإن لم يجتمع ذلك قدم أفقههم إذا كان يقرأ ما يكتفي به في صلاته ، وإن قدم أقرأهم إذا كان يعلم ما يلزم في الصلاة فحسن .

                                                                                                                        9212 - وقال الأثرم : قلت لأحمد بن حنبل : رجلان : أحدهما أفضل من صاحبه ، والآخر أقرأ منه .

                                                                                                                        9213 - فقال : حديث أبي مسعود : يؤم القوم أقرؤهم .

                                                                                                                        9214 - ثم قال : ألا ترى أن سالما مولى أبي حذيفة كان مع خيار أصحاب [ ص: 327 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم عمرو أبو سلمة بن عبد الأسد فكان يؤمهم ; لأنه جمع القرآن .

                                                                                                                        9215 - فقلت له : حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : مروا أبا بكر فليصل بالناس ، هو خلاف حديث أبي مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : يؤم القوم أقرؤهم !

                                                                                                                        9216 - قال : إنما قوله - عليه السلام - مروا أبا بكر فليصل بالناس أراد الخلافة ، وكان لأبي بكر فضل بين على غيره ، وإنما الأمر في الإمامة إلى القراءة ، وأما قصة أبي بكر فإنما أراد بها الخلافة .

                                                                                                                        9217 - قال أبو عمر : معلوم أن الصلاة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت إليه لا إلى غيره ، وهو الإمام المقتدى به ، ولم يكن لأحد أن يتقدم إليها بحضرته ، [ ص: 328 ] فلما مرض واستخلف أبا بكر عليها والصحابة متوافرون ، ووجوه قريش ، وسائر المهاجرين ، وكبار الأنصار ، حضور ، وقال لهم : " مروا أبا بكر يصلي بالناس " استدلوا بذلك على أن أبا بكر كان أحق الناس بالخلافة بعده - صلى الله عليه وسلم - فارتضوا لإقامة دنياهم وأمانتهم من ارتضاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لدينهم .

                                                                                                                        9218 - ولم يمنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم - من أن يصرح بخلافة أبي بكر - رضي الله عنه - إلا أنه كان لا ينظر في دين الله بهواه ، ولا يشرع فيه إلا بما يوحى إليه ولم يوح إليه في الخلافة شيء .

                                                                                                                        9219 - وكان لا يتقدم بين يدي ربه في شيء إلا أنه كان يحب أن يكون أبو بكر الخليفة بعده ، فأراهم بتقديمه إياه إلى الصلاة موضع اختياره ، وأراد به .

                                                                                                                        9220 - فعرف المسلمون ذلك منه ، فبايعوا أبا بكر بعده فنفعهم الله به ، وبارك لهم فيه ، فقاتل أهل الردة ، وقام بأمر الله ، وعدل في الرعية ، وقسم بالتسوية ، وسار سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توفاه الله - عز وجل - .

                                                                                                                        9221 - وقد رويت في هذا الباب آثار تدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد علم أن أبا بكر الخليفة بعده ، ولكنه لم يؤمر بالاستخلاف ; لتكون شورى ، والله أعلم .

                                                                                                                        9222 - منها حديث حذيفة عنه - عليه السلام - أنه قال : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر .

                                                                                                                        9223 - ومنها حديث جبير بن مطعم : أن امرأة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته [ ص: 329 ] عن شيء فأمرها أن ترجع ، فقالت : يا رسول الله إن رجعت ولم أجدك - كأنها تعني الموت - قال : فائت أبا بكر .

                                                                                                                        9224 - وقال ابن مسعود : كان رجوع الأنصار يوم سقيفة بني ساعدة لكلام قاله عمر بن الخطاب : أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ؟ قالوا : نعم . قال : فأيكم تطيب نفسه أن ينزعه عن مقامه الذي أقامه فيه رسول الله ؟ قالوا : كلنا لا تطيب نفسه بذلك .

                                                                                                                        9225 - وقد ذكرنا هذه الآثار كلها بأسانيدها في التمهيد ، وذكرنا الحجة لخلافته وإمامته هناك من الكتاب والسنة .

                                                                                                                        9226 - واستوفينا القول في فضائله في كتاب الصحابة ، والحمد لله .

                                                                                                                        9227 - وأما قول عائشة : إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء ، ففيه دليل على أن البكاء في الصلاة لا يقطعها .

                                                                                                                        9228 - وذكر ابن المبارك عن حماد بن سلمة ، عن ثابت البناني ، عن [ ص: 330 ] مطرف بن عبد الله بن الشخير ، عن أبيه ، قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي وبجوفه أزيز كأزيز المرجل ، يعني من البكاء .

                                                                                                                        9229 - والبكاء الذي لا يقطع الصلاة ما كان من خوف الله تعالى ، أو غلبه حزن لا يملكه ضعفا أو عبثا ، ولا فهم منه شيء من حروف الكلام .

                                                                                                                        9230 - وأما قوله : إنكن لأنتن صواحب يوسف ، فإنه أراد النساء وأنهن يسعين أبدا إلى صرف الحق واتباع الهوى ، وأنهن لم يزلن فتنة يدعون إلى الباطل ويصدون عن الحق في الأغلب .

                                                                                                                        [ ص: 331 ] 9231 - وقد روي في غير هذا الحديث في النساء : هن صواحب يوسف ، وداود ، وجريج .

                                                                                                                        9232 - وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في النساء : " إن منهن مائلات عن الحق مميلات لأزواجهن " .

                                                                                                                        9233 - وقال : " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " .

                                                                                                                        9234 - وخرج كلامه هذا منه - صلى الله عليه وسلم - على جهة الغضب على أزواجه وهن فاضلات ، وأراد جنس النساء غيرهن ، والله أعلم .

                                                                                                                        9235 - وفي هذا الحديث أيضا من قول حفصة لعائشة : ما كنت لأصيب منك خيرا قط ، ما يدل على ضيق صدور بني آدم بما يؤذيهم ، وأن المكترث ربما قال قولا عاما يحمله عليه الحرج ; لأنه معلوم أنها كانت لا تعدم من عائشة خيرا وأنها تصيب منها الخير لا الشر .

                                                                                                                        9236 - وإذا كان مثل هذا في السلف الصالح فمن دونهم أحرى أن يعذر في مثله ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                        [ ص: 332 ] 9237 - وقد روى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن حمزة بن عبد الله بن عمر ، عن عائشة ، قالت : والله ما كانت مراجعتي للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال : مروا أبا بكر أن يصلي بالناس ، إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول رجل يقوم مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون ذلك الرجل أبي .




                                                                                                                        الخدمات العلمية