الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        415 388 - مالك عن ابن شهاب ، عن عطاء بن يزيد ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار ، أنه قال : بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس بين ظهراني أصحابه ، إذ جاءه رجل فساره ، فلم يدر ما ساره به حتى جهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو يستأذن في قتل رجل من المنافقين ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جهر : " أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؟ فقال الرجل : بلى ولا شهادة له . قال : أليس يصلي ؟ قال : بلى ولا صلاة له ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أولئك الذين نهاني الله عنهم " .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        9238 - قد ذكرنا في التمهيد من وصله من أصحاب مالك وأسنده ، ومن أسنده أيضا من أصحاب ابن شهاب ، واختلافهم فيه عليه ، وذكرنا طرقه واختلاف ألفاظ ناقليه ، كل ذلك في التمهيد ، والحمد لله .

                                                                                                                        9239 - وفيه من الفقه : إباحة المناجاة والتسار مع الواحد دون الجماعة ، وإنما [ ص: 333 ] المكروه أن يتناجى الاثنان فما فوقهما دون الواحد فإن ذلك يحزنه ، وأما مناجاة الاثنين دون الجماعة فلا بأس بذلك بدليل هذا الحديث وغيره .

                                                                                                                        9240 - ويحتمل أن يستدل بهذا الحديث على أن الرجل الرئيس المحتاج إلى رأيه ونفعه جائز أن يناجيه كل من جاءه في حاجته .

                                                                                                                        9241 - وفيه : أنه جائز للرجل أن يظهر الحديث الذي يناجيه به صاحبه إذا لم يكن في ذلك ضرر على المناجي ، أو كان ما يحتاج أهل المجلس إلى علمه .

                                                                                                                        9242 - وفيه : أن من أظهر الشهادة بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حقنت دمه وحرمته ، إلا أن يأتي بما يوجب إراقته لما فرض الله عليه من الحق المبيح لقتل النفس المحرم قتلها .

                                                                                                                        9243 - قال الله - عز وجل - " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " [ الإسراء : 33 ] .

                                                                                                                        9244 - وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أليس يشهد أن لا إله إلا الله " دليل على أن الذي يشهد بالشهادة ولا يصلي لا تمنع الشهادة من أراقة دمه إذا لم يصل وأبى من إقامة الصلاة إذا دعي إليها .

                                                                                                                        9245 - وقد تقدمت أحكام تارك الصلاة وتنازع العلماء فيها في هذا الكتاب .

                                                                                                                        9246 - وفيه دليل على من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلى لم يجز قتله ، إلا أن يرتد عن دينه ، أو يكون محصنا فيزني ، أو يسعى في الأرض بالفساد ، ويقطع السبيل ، ويحارب الناس على أموالهم ، ونحو هذا ، وإذا لم يجز قتل من [ ص: 334 ] يصلي جاز قتل من لا يصلي .

                                                                                                                        9247 - وفي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أولئك الذين نهاني الله عنهم " رد لقول القائل له : بلى ولا صلاة ، بلى ولا شهادة له ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أثبت له الشهادة والصلاة ، ثم أخبر أن الله - عز وجل - نهاه عن قتل من هذه صفته ، وأنه لا يكلف أكثر من أن يقر ظاهرا ويصلي ظاهرا ، وحسابه على الله ، فإن كان ذلك صادقا من قلبه يبتغي به وجه الله دخل الجنة ، ومن خادع بها فهو منافق في الدرك الأسفل من النار ، ولا يجوز قتله مع إظهاره الشهادة ، ويأتي القول في أحكام الزنديق بما للعلماء في ذلك بعد إن شاء الله .

                                                                                                                        9248 - والرجل الذي سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث هو عتبان بن مالك . والرجل الذي جرى فيه هذا القول هو مالك بن الدخشم .

                                                                                                                        9249 - وقد أوضحنا ذلك أيضا بالآثار المتواترة في التمهيد ، وفي بعضها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لبعض من قال فيه أنه منافق لا يحب الله ورسوله وما نرى مودته ونصيحته إلا للمنافقين : لا تقل ذلك ; فقد قال : لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله .

                                                                                                                        9250 - واختلف الفقهاء في استتابة الزنديق المشهود عليه بالكفر والتعطيل وهو مقر بالإيمان مظهر له جاحد لما شهد به عليه .

                                                                                                                        [ ص: 335 ] 9251 - فقال مالك وأصحابه : يقتل الزنادقة ولا يستتابون .

                                                                                                                        9252 - وسئل مالك عن الزندقة فقال : ما كان عليه المنافقون في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إظهار الإيمان وكتمان الكفر هو الزندقة عندنا اليوم .

                                                                                                                        9253 - قيل لمالك : فلم يقتل الزنديق ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل المنافقين [ ص: 336 ] وقد عرفهم ؟

                                                                                                                        9254 - فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو قتلهم لعلمه فيهم وهم يظهرون الإيمان لكان ذلك ذريعة إلى أن يقول الناس : قتلهم للضغائن والعداوة أو لما شاء الله غير ذلك ، فيمتنع الناس من الدخول في الإسلام .

                                                                                                                        9255 - هذا معنى قول مالك .

                                                                                                                        9256 - وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أنه قال : لا يتحدث الناس أني أقتل أصحابي .

                                                                                                                        9257 - وقد احتج عبد الملك بن الماجشون في قول الزنديق لقول الله - عز وجل - " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا " [ الأحزاب : 60 - 61 ] ، يقول : إن الشأن فيهم أن يقتلوا حيث وجدوا ، ولم يذكر استتابة ، فمن لم ينته عما كان عليه المنافقون في عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل ، والله أعلم .

                                                                                                                        9258 - وابن القاسم يورث ورثة الزنديق منه وهم مسلمون ، وهو تحصيل مذهب مالك .

                                                                                                                        [ ص: 337 ] 9259 - والحجة له أن الزنديق مظهر لدين الإسلام ، والشهادة عليه أنه يسر الكفر لا توجب القطع على علم ما شهد به الشهود ، والأصل أن مال كل ميت أو مقتول لورثته إلا أن يصح أنهم على دين سوى دينه ، وراعى في ذلك الاختلاف في استتابته .

                                                                                                                        9260 - ومعلوم أنه لو استتيب لثبت على قوله أنه مسلم ، فلهذا كله لم ير نقل المال عن ورثته .

                                                                                                                        9261 - وأما ابن نافع فجعل ميراثه فيئا لجماعة المسلمين ، وكلاهما يروي ذلك عن مالك .

                                                                                                                        9262 - ووجه رواية ابن نافع أنه لم يقتل حدا ولا لمحاربته ، وإنما قتل للكفر ، والدم أعظم حرمة من المال ، والمال تبع له يفيض على أصله ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                        9263 - واختلف قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف في الزنديق ، فقالا مرة : يستتاب ، ومرة : لا يستتاب ويقتل دون استتابة .

                                                                                                                        9264 - وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة : اقتلوا الزنديق ; فإن توبته لا تعرف ، وقاله أبو يوسف .

                                                                                                                        9265 - وقال الشافعي : يستتاب الزنديق كما يستتاب المرتد ظاهرا ، فإن لم يتب قتل .

                                                                                                                        9266 - قال : ولو شهد شاهدان على رجل بالردة فأنكر قتل ، فإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله وتبرأ من كل دين خالف الإسلام لم يكشف عن غيره .

                                                                                                                        [ ص: 338 ] 9267 - واحتج بقصة المنافقين وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتلهم بشهادة ولا بعلمه ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل الشهادة تعصم الدم والمال ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله عصموا مني دماءهم وأموالهم ، وحسابهم على الله ، وكلهم مع علمه بهم فيما أظهروا إلى يوم تبلى السرائر ويمتاز المؤمن من الكافر " .

                                                                                                                        9268 - وقد أجمعوا أن الزنديق إذا أظهر الزندقة يستتاب كغير الزنديق .

                                                                                                                        9269 - ودل قوله : عصموا مني دماءهم على أن من أهل القبلة من يشهد بها غير مخلص ، وأنها تحقن دمه وحسابه على الله .

                                                                                                                        9270 - وأجمعوا أن أحكام الدنيا على الظاهر ، وإلى الله - عز وجل - السرائر .

                                                                                                                        9271 - وقال الأثرم : قلت لأحمد بن حنبل : يستتاب الزنديق .

                                                                                                                        9272 - قال : ما أدري .

                                                                                                                        9273 - قلت : إن أهل المدينة يقولون : يقتل ولا يستتاب .

                                                                                                                        9274 - فقال : نعم ، يقولون ذلك ، ثم قال : من أي شيء يستتاب وهو لا يظهر الكفر ، هو يظهر الإيمان .

                                                                                                                        9275 - وقد أفردت لحكم المنافقين في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحكامهم في مناكحتهم لبنات المسلمين الصالحين المؤمنين كتابا ، أتيت فيه على معاني المنافقين ، وكيف أقرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مناكحة بنات المؤمنين ، وكيف الحكم فيهم عند السلف والخلف بما فيه الشفاء من هذا المعنى ، والحمد لله .




                                                                                                                        الخدمات العلمية