الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        38 - مالك ، أنه بلغه ، أن عبد الرحمن بن أبي بكر قد دخل على عائشة ، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم مات سعد بن أبي وقاص ، فدعا بوضوء . فقالت له عائشة : يا عبد الرحمن ! أسبغ الوضوء . فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ويل للأعقاب من النار " .

                                                                                                                        [ ص: 47 ]

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        [ ص: 47 ] 1331 - هذا الحديث يروى متصلا مسندا عن النبي - عليه السلام - من وجوه شتى من حديث عائشة ، ومن حديث أبي هريرة ، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، ومن حديث عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي . وقد ذكرتها كلها في " التمهيد " ، والحمد لله .

                                                                                                                        1332 - وحديث عبد الله بن عمرو ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن الحارث بن جزء لا علة في شيء من أسانيدها ولا مقال .

                                                                                                                        1333 - وفيه من الفقه : غسل الرجلين .

                                                                                                                        1334 - وفي ذلك تفسير لقوله تعالى : " وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين " [ المائدة : 6 ] فرويت بخفض " أرجلكم " ونصبها ، وفي هذا الحديث دليل على أن المراد بذلك غسل الأرجل لا مسحها ؛ لأن المسح ليس شأنه استيعاب الممسوح ، فدل على أن من جر ( الأرجل ) عطفها على اللفظ لا على [ ص: 48 ] المعنى ، والمعنى فيهما الغسل ، على التقديم والتأخير . كأنه قال : فاغسلوا وجوهكم ، وأيديكم إلى المرافق ، وأرجلكم إلى الكعبين ، وامسحوا برءوسكم . والقراءتان صحيحتان مستفيضتان .

                                                                                                                        1335 - ومعلوم أن الغسل مخالف للمسح ، وغير جائز أن تبطل إحدى القراءتين بالأخرى ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى الغسل ، أو العطف على اللفظ .

                                                                                                                        1336 - وكذلك قال أشهب ، عن مالك أنه سئل عن قراءة من قرأ : " وأرجلكم " بالخفض . فقال : هو الغسل .

                                                                                                                        1337 - وهذا التأويل تعضده سنة رسول الله المجتمع عليها بأنه كان يغسل رجليه في وضوئه مرة ، ومرتين ، وثلاثا .

                                                                                                                        1338 - وجاء أمره في ذلك موافقا لفعله فقال : " ويل للعراقيب من النار ، ويل للعراقيب وبطون الأقدام من النار " .

                                                                                                                        1339 - وقد ذكرنا الألفاظ بهذه الآثار مسندة في " التمهيد " .

                                                                                                                        1340 - وقد وجدنا العرب تخفض بالجوار والإتباع على اللفظ بخلاف المعنى والمراد عندها المعنى ، كما قال امرؤ القيس :

                                                                                                                        كبير أناس في بجاد مزمل

                                                                                                                        فخفض بالجوار ، وإنما المزمل الرجل والإعراب فيه الرفع ، وكذلك قوله أيضا : [ ص: 49 ]

                                                                                                                        صفيف شواء أو قدير معجل

                                                                                                                        وكان الوجه أن يقول : أو قديرا معجلا ، ولكنه خفض للإتباع .

                                                                                                                        1341 - وكما قال زهير :

                                                                                                                        لعب الزمان بها وغيرها بعدي سوافي المور والقطر

                                                                                                                        قال أبو حاتم : كان الوجه ( والقطر ) بالرفع ، ولكنه جره بالجوار على ( المور ) ، كما قالت العرب : هذا جحر ضب خرب .

                                                                                                                        1342 - ومن هذا قراءة أبي عمرو : " يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس " [ الرحمن : 35 ] بالجر ، لأن النحاس هو الدخان . وقراءة يحيى بن وثاب : " ذو القوة المتين " بالخفض .

                                                                                                                        1343 - ومن هذا أيضا قول النابغة : [ ص: 50 ]

                                                                                                                        لم يبق غير طريد غير منفلت أو موثق في حبال القد مسلوب

                                                                                                                        فخفض .

                                                                                                                        1344 - ومثله قوله الآخر :

                                                                                                                        فهل أنت إن ماتت أتانك راحل إلى آل بسطام بن قيس فخاطب ؟

                                                                                                                        بكسر الباء .

                                                                                                                        1345 - ومنه أيضا قول الشاعر :

                                                                                                                        حي دارا أعلامها بالجناب مثل ما لاح في الأديم الكتاب

                                                                                                                        فجر ( الكتاب ) بالجوار ل ( الأديم ) وموضعه الرفع ب ( لاح ) ، وقد يكون ( الكتاب ) مخفوضا ردا على ( ما ) بدلا من ( ما ) .

                                                                                                                        1346 - وقد يراد بالمسح الغسل من قول العرب : تمسحت للصلاة ، والمراد : الغسل .

                                                                                                                        1347 - وعلى هذا التأويل الذي ذكرنا في إيجاب غسل الرجلين جمهور العلماء ، وجماعة فقهاء الآثار .

                                                                                                                        [ ص: 51 ] 1348 - وإنما روي مسح الرجلين عن بعض الصحابة ، والتابعين ، وتعلق به بعض المتأخرين .

                                                                                                                        1349 - ولو كان مسح الرجلين يجزئ ما أتى الوعيد بالنار على من لم يغسل عقبيه وعرقوبيه ، أو فاته شيء من بطون قدميه لأنه معلوم أنه لا يعذب بالنار إلا على ترك الواجب .

                                                                                                                        1350 - وقد أجمع المسلمون أن من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه : من قال منهم بالمسح ، ومن قال بالغسل ، فاليقين ما أجمعوا عليه .

                                                                                                                        1351 - واختلاف العلماء في دخول الكعبين في غسل الرجلين - كما ذكرنا في دخول المرفقين في الذراعين ، وجملة مذهب مالك وتلخيص مذهبه في ذلك أن المرفقين إن بقي شيء منهما مع القطع غسل .

                                                                                                                        1352 - قال : وأما الكعبان إذا قطعت الرجل على السنة في سرقة أو خرابة فهما باقيان في القطع ، ولا بد من غسلهما مع الرجلين .

                                                                                                                        1353 - والكعبان : هما الناتئان في طرف الساق .

                                                                                                                        1354 - وعلى هذا مذهب الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وداود في الكعبين .

                                                                                                                        1355 - وقال الطحاوي : للناس في الكعبين ثلاثة أقوال :

                                                                                                                        1356 - فالذي يذهب إليه محمد بن الحسن أن في القدم كعبا وفي الساق كعبا ، ففي كل رجل كعبان .

                                                                                                                        [ ص: 52 ] 1357 - قال : وغيره يقول : في كل قدم كعب ، وموضعه ظهر القدم مما يلي الساق .

                                                                                                                        1358 - قال : وآخرون يقولون : الكعب : هو الدائر بمغرز الساق ، وهو مجتمع العروق من ظهر القدم على العراقيب .

                                                                                                                        1359 - قال : والعرب تقول : الكعبان هما العرقوبان .

                                                                                                                        1360 - قال أبو عمر : احتج بعض من قال في الكعبين بقولنا بحديث النعمان بن بشير ، قال : " أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجهه فقال : أقيموا صفوفكم قال : فلقد رأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه " .

                                                                                                                        1361 - والعرقوب : هو مجمع مفصل الساق والقدم . والعقب : هو مؤخر الرجل تحت العرقوب .

                                                                                                                        1362 - وقال مالك : ليس على أحد تخليل الأصابع من رجليه في الوضوء ولا في الغسل ، ولا خير في الجفاء والغلو ، رواه ابن وهب ، وغيره عنه .

                                                                                                                        1363 - قال ابن وهب : تخليل أصابع رجليه في الوضوء مرغب فيه ، ولا بد من ذلك في أصابع اليدين . وإن لم يخلل أصابع رجليه فلا بد من إيصال الماء إليها .

                                                                                                                        [ ص: 53 ] 1364 - وقال ابن القاسم عن مالك فيمن توضأ في نهر فحرك رجليه في الماء : إنه لا يجزئه حتى يغسلهما بيديه .

                                                                                                                        1365 - قال ابن القاسم : وإن قدر على غسل إحداهما بالأخرى أجزأ .

                                                                                                                        1366 - قال أبو عمر : يلزم من قال : إن الغسل لا يكون إلا بمرور اليدين أن يقول : لا يجزئه غسل إحداهما بالأخرى .

                                                                                                                        1367 - وقد روي عن النبي - عليه السلام - " أنه كان إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره " .

                                                                                                                        1368 - وهذا عندنا محمول على الكمال .

                                                                                                                        1369 - وقد روي عن ابن وهب قال : لما حدثت مالكا بحديث المستورد بن شداد عن النبي - عليه السلام - " أنه كان يخلل أصابع رجليه " رأيته يتعهد ذلك في وضوئه .




                                                                                                                        الخدمات العلمية