الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " روي أنه صلى الله عليه وسلم قال ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة قال : ولا صدقة في خيل ولا في شيء من الماشية عدا الإبل والبقر والغنم بدلالة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك . قال المزني : قال قائلون في الإبل والبقر والغنم المستعملة وغير المستعملة ومعلوفة وغير معلوفة سواء فالزكاة فيها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض فيها الزكاة وهو قول المدنيين . يقال لهم وبالله التوفيق : وكذلك فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الذهب والورق كما فرضها في الإبل والبقر فزعمتم أن ما استعمل من الذهب والورق فلا زكاة فيه وهي ذهب وورق ، كما أن الماشية إبل وبقر فإذا أزلتم الزكاة عما استعمل من الذهب والورق فأزيلوها عما استعمل من الإبل والبقر ؛ لأن مخرج قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك واحد " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال :

                                                                                                                                            أما الرقيق فلا يختلف العلماء أن لا زكاة في أعيانهم إلا أن يكونوا للتجارة فتجب الزكاة في قيمتهم ، أو في الفطر فتجب زكاة الفطر عنهم ، ولهذا موضع . فأما الخيل فلا زكاة فيها بحال كالحمير والبغال ، سواء كانت سائمة أو معلوفة ذكورا أو إناثا ، هذا مذهب الشافعي ، وبه قال من الصحابة عمر ، وعلي ، وعبد الله بن عمر ، وهو مذهب مالك والليث بن سعد ، والأوزاعي والثوري ، وأبي يوسف ومحمد .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة وزفر : إن كانت معلوفة فلا زكاة فيها كالماشية ، وإن كانت سائمة : فإن كانت ذكورا فلا زكاة فيها ، وإن كانت إناثا أو ذكورا وإناثا ففيها الزكاة ، وربها بالخيار إن شاء أخرج عن كل فرس دينارا وإن شاء قومها وأخرج ربع عشر القيمة من غير اعتبار نصاب ، احتجاجا برواية جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : في كل فرس سائمة دينار ، وليس في المرابطة شيء وبرواية علقمة عن ابن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : الخيل ثلاث : لرجل أجر ، ولآخر شين ، وعلى آخر وزر ، فأما الذي له الأجر فالذي يمسكها تعففا وتجملا ، فلا ينسى حق الله في ظهورها ورقابها ، ومما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه [ ص: 192 ] قال : خير المال سكة مأبورة ، ومهرة مأمورة وإذا كان ذلك من خيار المال كان وجوبها فيه أولى من وجوبها في شراره ، قالوا : ولأنه ذو أربعة : أهلي يؤكل لحمه فوجب فيه الزكاة كالغنم . قالوا : ولأن الزكاة إنما تجب في الماشية لظهرها ونسلها ، وفي الخيل السائمة هذا المعنى موجود فيها ، فاقتضى أن تجب الزكاة فيها .

                                                                                                                                            ودليلنا رواية عراك بن مالك عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة ، وروى أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة إلا صدقة الفطر في الرقيق ، وروى عاصم بن ضمرة ، عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " عفوت لكم عن صدقة الخيل .

                                                                                                                                            وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا صدقة في فرس ولا عبد .

                                                                                                                                            وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ليس في الجبهة ولا في النخة ولا في الكسعة صدقة . فالجبهة : الخيل ، والكسعة : الحمير ، فأما النخة فأبو عبيدة يرويها بضم النون وهي الرقيق ، والكسائي يرويها بفتح النون ، وقال : هي البقر العوامل بلغة الحجاز ، وقال الفراء : النخة أن يأخذ المصدق دينارا بعد فراغه من الصدقة وأنشد :

                                                                                                                                            عمي الذي منع الدينار ضاحية دينار نخة كلب وهو مشهود



                                                                                                                                            وروي أن أهل الشام كتبوا إلى عمر فقالوا : قد كثر عندنا الخيل والرقيق فزكه لنا ، فقال : لا آخذ شيئا لم يأخذه صاحباي ، وسأستشير . فاستشارهم فقالوا : حسن ، وعلي عليه السلام ساكت ، فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال : لا بأس إن لم تكن جزية راتبة من بعدك ، [ ص: 193 ] فأخذ عمر من كل عبد عشرة دراهم ، ورزقه جريبين ، ومن كل فرس عشرة دراهم ، ورزقه عشرة أجربة شعيرا .

                                                                                                                                            قال أبو إسحاق : فأعطاهم أكثر مما أخذ منهم ، قال أبو إسحاق : ولم تكن جزية ، ثم صار جزية راتبة في زمن الحجاج تؤخذ منهم ولا يعطون .

                                                                                                                                            فالدلالة في هذا الحديث من وجوه :

                                                                                                                                            أحدها : أنهم سألوه ، ولو كانت واجبة لبدأهم .

                                                                                                                                            والثاني : أنه قال : لم يأخذ صاحباي ، ولو كانت واجبة لأخذاها .

                                                                                                                                            والثالث : أنه استشار ، ولو كان نص ما استشار .

                                                                                                                                            والرابع : أن عليا عليه السلام قال : إن أمنت أن لا تكون جزية راتبة فافعل ، ولو وجبت لكانت راتبة .

                                                                                                                                            والخامس : أن عمر أعطاهم في مقابلتها رزقا ، ولو كانت واجبة لم يعطهم شيئا .

                                                                                                                                            ويدل على ذلك من طريق المعنى : أن يقال : كل جنس من الحيوان لا تجب الزكاة في ذكوره إذا انفردت لا تجب في ذكوره وإناثه كالحمير والبغال ، وعكسه المواشي ، ولأنه حيوان يسهم له فشابه الذكور ، ولأنه حيوان لا يضحى به فأشبه الحمير ، ولأنه ذو حافر فشابه الذكور ، ولأنه حيوان لم يجب فيه من جنسه فلم يجب فيه من غير جنسه كالدجاج .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن حديث جابر : فرواية غورك السعدي وهو مجهول عند أصحاب الحديث ، فلا يصح الاحتجاج به ، ولو صح لكان الجواب عنه من وجهين استعمالا وترجيحا .

                                                                                                                                            فأما الاستعمال في زكاة التجارة ، ويكون ذكر الدينار على وجه التقريب ، فإن قيل : قد نص على السوم ، والسوم غير مؤثر في زكاة التجارة ، قيل : إنما ذكره والله أعلم ليفرق بينه وبين الغنم ، فلا يظن أن سومها مسقط لزكاة التجارة كما أسقطها من النعم على أحد القولين . وأما الترجيح : فقد عارضه قوله : عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق ، وهو أولى من وجهين : أحدهما : أنه متفق على استعمال بعضه وهو الرقيق ، مختلف في استعمال بعضه وهو الخيل ، وخبرهم مختلف في استعمال جميعه ، فكان خبرنا أولى .

                                                                                                                                            والثاني : أن خبرهم متقدم وخبرنا متأخر ؛ لأن قوله : ( عفوت ) يدل على إيجاب متقدم ، والمتأخر أولى ، وأما حديث ابن مسعود فالجواب عنه قريب من جواب ما تقدم ، أو يحمل [ ص: 194 ] على الجهاد ؛ لأنه قال ولا تنس حق الله في ظهورها ورقابها والزكاة لا تجب في الظهر ، وإنما الجهاد على الظهر ، وأما قوله خير المال سكة مأبورة فالمراد به الإخبار عن فضل الجنس دون إيجاب الزكاة ، وقد لا تجب الزكاة في خيار المال كالمعلوفة ، وتجب في شراره كمراض السائمة .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على النعم فالمعنى فيه أن الزكاة واجبة في ذكورها ، فلذلك وجبت في إناثها ، ولما لم تجب الزكاة في ذكور الخيل لم تجب في إناثها ، وأما قولهم : إن زكاة الماشية وجب لظهورها ونسلها فغير صحيح ، وإنما وجبت لدرها ونسلها ، والخيل لا در لها فلم تجب الزكاة فيها . والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية