الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " وإنما حرمنا غير ما سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المأكول المكيل والموزون لأنه في معنى ما سمى " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما المنصوص عليه في الربا فستة أشياء وردت السنة بها ، وأجمع المسلمون عليها وهي : الذهب ، والفضة ، والبر ، والشعير ، والتمر ، والملح . واختلف الناس في ثبوت الربا فيما عداها . فحكي عن طاوس ، وقتادة ، ومسروق ، والشعبي وعثمان البتي ، وداود بن علي الظاهري ، ونفاة القياس بأسرهم ، أنه لا ربا فيما عدا الستة المنصوص عليها ، فلا يجوز التخطي عنها إلى ما سواها تمسكا بالنص ، ونفيا للقياس ، واطراحا للمعاني .

                                                                                                                                            وذهب جمهور الفقهاء ومثبتو القياس إلى أن الربا يتجاوز المنصوص عليه إلى ما كان في معناه .

                                                                                                                                            وهذه المسألة فرع على إثبات القياس والكلام فيها يلزم من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : من جهة إثبات القياس ، فإذا ثبت كونه حجة ، ثبت أن الربا يتجاوز ما ورد عليه النص من الأشياء الستة ، وهذا يأتي في موضعه من كتاب أدب القاضي إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                            والثاني : من طريق الاستدلال الظاهر ، والدليل عليه من هذا الطريق ثلاثة أشياء :

                                                                                                                                            أحدهما : قوله تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ البقرة : 275 ] . والربا اسم للزيادة والفضل من طريق اللغة والشرع .

                                                                                                                                            أما اللغة فكقولهم قد ربا السويق إذا زاد ، وقد أربى علي في الكلام إذا زاد في السب ، وهذه ربوة من الأرض إذا زادت على ما جاورها .

                                                                                                                                            وأما الشرع : فكقوله تعالى : يمحق الله الربا ويربي الصدقات [ البقرة : 276 ] .

                                                                                                                                            أي يضاعفها ويزيد فيها ، وقوله : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت [ الحج : 5 ] أي زادت ونمت .

                                                                                                                                            وإذا كان الربا ما ذكرنا اسما للزيادة لغة وشرعا دل عموم الآية على تحريم الفضل والزيادة إلا ما خص بدليل .

                                                                                                                                            [ ص: 82 ] والدلالة الثانية : ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل . والطعام اسم لكل مطعوم من بر وغيره في اللغة والشرع . أما اللغة فكقولهم طعمت الشيء أطعمه وأطعمت فلانا كذا إذا كان الشيء مطعوما وإن لم يكن برا .

                                                                                                                                            وأما الشرع فلقوله تعالى : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل [ آل عمران : 93 ] يعني كل مطعوم فأطلق عليه اسم الطعام . وقوله : فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني [ البقرة : 249 ] فسمى الماء مطعوما لأنه مما يطعم .

                                                                                                                                            وقالت عائشة : عشنا دهرا وما لنا طعام إلا الأسودان التمر والماء . وإذا كان اسم الطعام بما وصفنا من شواهد اللغة والشرع يتناول كل مطعوم من بر وغيره . كان نهيه عن بيع الطعام بالطعام محمولا على عمومه في كل مطعوم إلا ما خص بدليل .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهذا وإن كان عاما فمخصوص ببيان النبي - صلى الله عليه وسلم - الربا في الأجناس الستة .

                                                                                                                                            قيل : بيان بعض ما يتناوله العموم لا يكون تخصيصا : لأنه لا ينافيه ، وإن شذ بعض أصحابنا فجعله تخصيصا .

                                                                                                                                            والدلالة الثالثة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على البر وهو أعلى المطعومات ، وعلى الملح وهو أدنى المطعومات ، فكان ذلك منه تنبيها على أن ما بينهما لاحق بأحدهما . لأنه ينص تارة على الأعلى لينبه به على الأدنى ، كما قال تعالى : ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك فنبه به على الأدنى . وينص تارة على الأدنى لينبه على الأعلى كما قال : ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك فنبه به على الأعلى ، فإذا ورد النص على الأعلى والأدنى كان أوكد تنبيها على ما بينهما ، وأقوى شاهدا في لحوقه بأحدهما . والله أعلم .

                                                                                                                                            مسألة قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ولم يجز أن نقيس الوزن على الوزن من الذهب والورق : لأنهما غير مأكولين ومباينان لما سواهما ، وهكذا قال ابن المسيب : لا ربا إلا في ذهب أو ورق أو ما يكال أو يوزن مما يؤكل ويشرب ( قال ) وهذا صحيح ، ولو قسنا عليهما الوزن لزمنا أن لا نسلم دينارا في موزون من طعام كما لا يجوز أن نسلم دينارا في موزون من ورق ، ولا أعلم بين المسلمين اختلافا أن الدينار والدرهم يسلمان في كل شيء ولا يسلم أحدهما في الآخر غير أن من الناس من كره أن يسلم دينار أو درهم في فلوس ، وهو عندنا جائز : لأنه لا زكاة فيها ولا في تبرها ، وإنها ليست بثمن للأشياء المتلفة وإنما أنظر في التبر إلى أصله والنحاس مما لا ربا فيه وقد أجاز عدد منهم إبراهيم النخعي السلف في الفلوس [ ص: 83 ] وكيف يكون مضروب الذهب دنانير ومضروب الورق دراهم في معنى الذهب والورق غير مضروبين ، ولا يكون مضروب النحاس فلوسا في معنى النحاس غير مضروب " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : إذا ثبت أن الربا يتجاوز المنصوص عليه لمعنى فيه ، وعلته مستنبطة منه . فالعلة في الذهب والفضة غير العلة في البر والشعير والتمر والملح . فأما العلة في البر والشعير فقد اختلف أصحاب المعاني فيها على مذاهب شتى :

                                                                                                                                            أحدهما : مذهب محمد بن سيرين أن علة الربا الجنس فأجرى الربا في جميع الأجناس ومنع التفاضل فيه حتى التراب بالتراب .

                                                                                                                                            والمذهب الثاني : وهو مذهب الحسن البصري أن علة الربا المنفعة في الجنس ، فيجوز بيع ثوب قيمته دينار بثوبين قيمتهما دينار ، ومنع من بيع ثوب قيمته دينار بثوب قيمته ديناران .

                                                                                                                                            والثالث : وهو مذهب سعيد بن جبير أن علة الربا تقارب المنافع في الأجناس ، فمنع من التفاضل في الحنطة بالشعير لتقارب منافعهما ، ومن التفاضل في الباقلاء بالحمص ، وفي الدخن بالذرة : لأن المنفعة فيهما متقاربة .

                                                                                                                                            والرابع : وهو مذهب ربيعة أن علة الربا جنس يجب فيه الزكاة ، فأثبت الربا في كل جنس وجبت فيه الزكاة من المواشي والزروع ونفاه عما لا تجب فيه الزكاة .

                                                                                                                                            والخامس : وهو مذهب مالك أنه مقتات مدخر جنس فأثبت الربا فيما كان قوتا مدخرا ، ونفاه عما لم يكن مقتاتا كالفواكه ، وعما كان مقتاتا ولم يكن مدخرا كاللحم .

                                                                                                                                            والسادس : وهو مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - أن علة الربا في البر أنه مكيل جنس ، فأثبت الربا في كل ما كان مكيلا وإن لم يكن مأكولا كالجص ، والنورة ، ونفاه عما كان غير مكيل ولا موزون وإن كان مأكولا كالرمان والسفرجل .

                                                                                                                                            والسابع : وهو مذهب سعيد بن المسيب ، وبه قال الشافعي في القديم ، أنه مأكول مكيل أو موزون جنس . ومن أصحابنا من عبر عن هذه العلة بأخصر من هذه العبارة فقال : مطعوم مقدر جنس . فعلى هذا القول ثبت الربا فيما كان مأكولا أو مشروبا مكيلا أو موزونا ، وينتفي عما كان غير مكيل ولا موزون وإن كان مأكولا أو مشروبا مكيلا أو موزونا ، وعما كان غير مأكول ولا مشروب وإن كان مكيلا أو موزونا .

                                                                                                                                            والثامن : وهو مذهب الشافعي في الجديد أن علة الربا أنه مأكول جنس ، ومن أصحابنا من قال مطعوم جنس ، وهذه العبارة أعم ، وهو قول من أثبت في الماء الربا . فهذا جملة المذاهب المشهورة في علة الربا . وسنذكر حجة كل مذهب منها وندل على فساده .

                                                                                                                                            فصل : أما المذهب الأول ، وهو قول محمد بن سيرين ، أن علة الربا الجنس ، فاحتج له بأن [ ص: 84 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أجناسا منع من التفاضل فيها ، ثم قال : " فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد " .

                                                                                                                                            فشرط في جواز التفاضل اختلاف الجنس فثبت أن علة الربا الجنس ، فلا يجوز أن يباع شيء بجنسه متفاضلا أبدا .

                                                                                                                                            والدليل على فساد هذا القول ما روى عبد الله بن عمرو ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهز جيشا فنفدت إبله فأمرني أن أشتري بعيرا ببعيرين إلى إبل الصدقة فلما ابتاع - صلى الله عليه وسلم - بعيرا ببعيرين بطل أن يكون الجنس علة لوجود التفاضل فيه ، وأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - به . وقد فعلت الصحابة مثل فعله ، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه باع جملا له بعشرين جملا إلى أجل .

                                                                                                                                            وعن ابن عمر أنه باع راحلة له بأربعة رواحل إلى أجل ، ولم يظهر لهما مخالف فكان إجماعا . فأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : " فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم . فعطف على ما قدم ذكره من الأجناس الستة التي أثبت فيها الربا بالنص ، فجوز فيها التفاضل مع اختلاف الجنس ، فلم يدل ذلك على تحريم التفاضل مع اتفاق الجنس في غير ما ورد فيه النص .

                                                                                                                                            فصل : وأما المذهب الثاني ، وهو قول الحسن البصري ، أن علة الربا المنفعة في الجنس ، فاحتج له بأن ثبوت الربا مقصود به تحريم التفاضل ، وفضل القيمة يقع ظاهرا كفضل القدر ، فلما ثبت أن الربا يمنع من التفاضل في القدر وجب أن يمنع التفاضل في القيمة . والدليل على فساد هذا القول مع ما قدمناه من ابتياع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيرا ببعيرين ، وفضل القيمة بينهما كفضل القدر ، وأن مقصود البياعات طلب النفع والتماس الفضل ، فلم يجز أن يكون ما هو مقصود البياعات علة في تحريم البياعات ، ولأن تحريم تفاضل القيمة في الجنس مع تساوي القدر يقتضي تحليل تساوي القيمة في الجنس مع تفاضل القدر وهذا محظور بالنص ، وفي هذا انفصال عما تعلق به من الاستدلال .

                                                                                                                                            فصل : وأما المذهب الثالث ، وهو قول سعيد بن جبير ، أن علة الربا تقارب المنافع في الأجناس ، فاحتج له بأن الجنسين إذا تقاربا في المنفعة تقاربا في الحكم والمتقاربان في الحكم مشتركان فيه .

                                                                                                                                            والدليل على فساد هذا القول ورود النص بجواز التفاضل في البر بالشعير مع تقارب منافعهما ، وما دفعه النص كان مطرحا .

                                                                                                                                            [ ص: 85 ] فصل : فأما المذهب الرابع ، وهو قول ربيعة ، إن علة الربا جنس تجب فيه الزكاة فاحتج بأن الربا تحريم التفاضل حثا على المواساة بالتماثل ، وأموال المواساة ما ثبت فيها الزكاة فاقتضى أن تكون هي الأموال التي ثبت فيها الربا .

                                                                                                                                            والدليل على فساد هذا القول : ابتياع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيرا ببعيرين ، والإبل جنس تجب فيه الزكاة ، وأثبت الربا في الملح وهو جنس لا تجب فيه الزكاة فثبت بهذين فساد مذهبه .

                                                                                                                                            فصل ، : فأما المذهب الخامس ، وهو قول مالك ، إن علة الربا أنه مقتات مدخر جنس ، فاحتج له بأنه اعتلال يشابه الأصل بأوصاف وما كان أكثر شبها بالأصل كان أولى . والدليل على فساد هذا القول عدم هذه الأوصاف في الأصل : لأن الملح ليس بقوت ، وقد جاء النص بثبوت الربا فيه ، فبطل اعتبار القوت ، والرطب فيه الربا وليس بمدخر ، وقد وافق أن فيه الربا . فإن قال : إن الرطب يئول إلى حال الادخار في ثاني حال ، قيل : فالرطب الذي لا يصير تمرا ليس يئول إلى حال الادخار وفيه الربا ، على أن هذا لا يخرج الرطب من أن يكون غير مدخر في الحال وإن جاز أن يفضي إلى حالة الادخار كاللحم الذي ليس بمدخر في الحال وإن أمكن أن يدخر في ثاني حال ، فبطل اعتبار الادخار ، فصار كلا الوصفين باطلا . فإن عدل عن هذا التعليل ، وعلل بما كان يعلل به المتقدمون من أصحابه أنه قوت أو ما يصلح به القوت ، قيل : هذا القول أفسد من الأول : لأنه إن أراد اجتماع ذلك في الأربعة لم يصح : لأن الملح ليس بقوت ، وليس التمر مما يصلح به القوت .

                                                                                                                                            وإن أراد أن القوت في الثلاثة علة وما يصلح القوت في الملح علة ، قيل : قد فرقت الأصل وعلته بعلتين مختلفتين ، وقد اتفقوا أنه معلل بعلة واحدة ، ولو جاز تعليل الأصل بعلتين لجاز إسلاف الملح في الثلاثة لاختلافهما في العلة ، كما يجوز إسلاف الذهب والفضة في الأربعة لاختلاف العلة ، وقد جاءت السنة وانعقد الإجماع على خلاف هذا . ثم يقال له : إن كنت تريد بقولك وما يصلح القوت جميع الأقوات فالتمر والزبيب قوتان ولا يصلحان بالملح ، وإن أردت به بعض الأقوات فينبغي أن يثبت الربا في النار والحطب : لأنه يصلح به بعض الأقوات ، وهذا دليل على فساد ما ذكره من التعليل . والله أعلم .

                                                                                                                                            فصل : وأما المذهب السادس وهو قول أبي حنيفة أنه مكيل جنس . فالاحتجاج له من طريقين :

                                                                                                                                            أحدهما : إثبات الكيل علة .

                                                                                                                                            والثاني : إبطال أن يكون الطعم علة .

                                                                                                                                            [ ص: 86 ] فأما ما احتج به في إثبات أن الكيل علة فما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تبيعوا البر بالبر ولا الشعير بالشعير إلا مثلا بمثل وكذلك ما يكال ويوزن " فنهى عن الكيل فاقتضى أن يكون علة الحكم .

                                                                                                                                            ولأن التساوي في بيع البر بالبر مباح ، والتفاضل فيه محظور ، وليس يعلم التساوي المباح من التفاضل المحظور إلا بالكيل ، فوجب أن يكون الكيل علته للحكم : لأنه به يمتاز المباح من المحظور : ولأن الجنس صفة والكيل مقدار ، والتعليل بكونه مكيلا جنسا يجمع حالتي البر صفة وقدرا ، وهما المقصود في الربا فثبت أنها علة الربا . فهذه ثلاث دلائل احتج بها أبو حنيفة وأصحابه في إثبات أن الكيل علة .

                                                                                                                                            فأما ما احتج به في إبطال أن يكون المطعوم علة فأمور منها :

                                                                                                                                            أن الطعم في المطعومات مختلف ، والكيل في المكيلات مؤتلف : لأن من الأشياء ما يؤكل قوتا ومنه ما يؤكل إدما ، ومنه ما يؤكل تفكها ، والكيل لا يختلف فكان أولى أن يكون علة من المطعوم الذي يختلف ، ولأن المطعوم صفة آجلة لأن البر لا يطعم إلا بعد علاج وصنعة ، والكيل صفة عاجلة لأنه يكال من غير علاج ولا صنعة ، وإذا كان الحكم منه متعلقا بإحدى الصفتين كان تعليقه بالصفة العاجلة أولى من تعليقه بالصفة الآجلة .

                                                                                                                                            ولأن علة الربا في البر هي ما منعت من التفاضل وأوجبت التساوي ، وقد يوجد زيادة الطعم ولا ربا ولا يوجد زيادة الكيل إلا مع حصول الربا وبيانه :

                                                                                                                                            لو باع صاعا من طعام ثقيل له ربع بصاع من طعام خفيف ليس له ربع جاز ، وإن تفاضلا في الكيل فبطل أن يكون الطعم علة لوجود التفاضل فيه مع عدم الربا ، ووجود التساوي فيه مع حصول الربا ، وثبت أن الكيل علة : لأن التفاضل فيه مثبت للربا والتساوي فيه كاف للربا ، فهذا أقوى ترجيحاتهم الثلاثة .

                                                                                                                                            فصل : والدليل على فساد ما ذهب إليه من طريقين : أحدهما : إثبات أن المطعوم علة .

                                                                                                                                            والثاني : إبطال أن الكيل علة .

                                                                                                                                            فأما الدليل على أن المطعوم علة : فما روى بشير بن سعد عن معمر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل . واسم الطعام يتناول كل مطعوم في اللغة والشرع بما بيناه من قبل ، فكان عموم هذا الخبر إشارة إلى أن علة الربا الطعم : لأن الحكم إذا علق باسم مشتق من معنى كان ذلك المعنى علة لذلك الحكم كحد الزاني : لأن اسمه مشتق من الزنا ، وقطع يد السارق لأن اسمه مشتق من السرقة .

                                                                                                                                            [ ص: 87 ] ولأن علة الشيء في ثبوت حكمه ما كان مقصودا من أوصافه ، ومقصود البر هو الأكل فاقتضى أن يكون علة الحكم .

                                                                                                                                            ولأن الأكل صفة لازمة لذات المعلول والكيل صفة زائدة عن المعلول والصفة اللازمة أولى أن تكون علة من الصفة الزائدة .

                                                                                                                                            ولأن الأكل علة يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها ، والكيل علة يوجد الحكم مع عدمها ويعدم الحكم مع وجودها ، وهو أن الزرع إذا كان حشيشا أو قصيلا لا ربا فيه لعدم الأكل عندنا ، وعدم الكيل عندهم ، فإذا صار سنبلا ثبت فيه الربا عندنا : لأنه مأكول وثبت فيه الربا عندهم وهو غير مكيل . فإن قيل يصير مكيلا . قيل : وكذلك إذا كان حشيشا . فإذا صار السنبل خبزا ثبت فيه الربا عندنا : لأنه مأكول ، وثبت فيه الربا عندهم وهو غير مكيل ، فإن قيل : يحصل فيه الربع لأنه موزون . قيل : ما ثبت فيه الربا لا تختلف علته باختلاف أوصافه ، فإذا صار الخبز رمادا فلا ربا فيه عندنا : لأنه غير مأكول ، ولا ربا فيه عندهم وهو مكيل ، فثبت أن علتنا يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها ، وعلتهم يوجد الحكم مع عدمها في السنبل ويعدم الحكم مع وجودها في الرماد ، فثبت أن التعليل بالأكل أصح لهذه الدلائل الأربعة .

                                                                                                                                            وأما الدليل على إبطال الكيل أن يكون علة فمن خمسة أوجه :

                                                                                                                                            أحدهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على أربعة أجناس كلها مكيلة فلو كان ذلك تنبيها على الكيل لاكتفى بذكر أحدها .

                                                                                                                                            فإن قيل : فهذا يرجع عليكم في الأكل لأن الأربعة كلها مأكولة ، ولو أراد الأكل لاكتفى بذكر أحدها قيل : ليس يلزمنا هذا : لأن الكيل في الأربعة لا يختلف والأكل فيها مختلف ، فالبر يؤكل في حال الاختيار ، والشعير يؤكل في حال الاضطرار ، والتمر يؤكل حلوا والملح استطابة ، فلم يقتنع بذكر إحدى المأكولات لتفرده بإحدى الصفات .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن الكيل قد يختلف في المكيلات على اختلاف البلدان ، وتقلب الأزمان ، فالتمر يكال بالحجاز ويوزن بالبصرة والعراق ، والبر يكال تارة في زمان ويوزن أخرى ، والفواكه قد تعد في زمان وتوزن في زمان ، فلم يجز أن يكون الكيل علة : لأنها تقتضي أن يكون الجنس الواحد فيه الربا في بعض البلدان ولا ربا فيه في بعضها ، وفي بعض الأزمان ولا ربا في غيرها ، وعلة الحكم يجب أن تكون لازمة في البلدان وسائر الأزمان وهذا موجود في الأكل .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الكيل علما على الإباحة لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع البر بالبر إلا كيلا بكيل ، فلم يجز أن يجعل الكيل علما على الحظر . ألا تراه لما جعل القبض قبل الافتراق علما على الإباحة لم يجز أن يجعل علة في الحظر .

                                                                                                                                            [ ص: 88 ] وتحريره قياسا أن ما سلم به من تحريم الربا لم يجز أن يكون علة للربا كالقبض قبل الافتراق .

                                                                                                                                            فإن قيل : علة الحظر هي زيادة الكيل قيل : هذا قول بعض المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة على أنه لما لم يجز أن يكون الكيل علة في الحظر : لأنه علم على الإباحة ، لم يجز أن يكون الكيل صفة في الحظر ، لأنه علم على الإباحة أيضا .

                                                                                                                                            والوجه الرابع : أن الكيل موضوع لمعرفة مقادير الأشياء فلم يجز أن تكون علة الربا كالزرع والعدد .

                                                                                                                                            والوجه الخامس : أن من جعل الكيل علة أخرج من المنصوص عليه ما لا يمكن كيله لقلته ، فجوز بيع تمرة بتمرتين وكف طعام بكفين . وكل علة أوجبت النقصان من حكم النص لم يجز استعمالها فيما عداه لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن المعنى معقول الاسم فلم يجز أن يكون ما عقل عن الاسم رافعا لموجب الاسم .

                                                                                                                                            والثاني : أن استعمالها فيما عدا المذكور يوجب زيادة حكم ، ومحال أن تكون علة واحدة توجب نقصان الحكم من المذكور والزيادة عليه لتضاد الموجبين : لأن أحدهما إسقاط حكم ونفيه ، والآخر إيجاب حكم وإثباته .

                                                                                                                                            فإن قيل : ما لا يمكن كيله غير مراد بالنص لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تبيعوا البر بالبر إلا كيلا بكيل . فلما كان الاستثناء مكيلا وجب أن يكون المستثنى منه مكيلا : لأن حكم المستثنى منه يجب أن يكون كحكم الاستثناء فصار تقدير ذلك ، لا تبيعوا البر المكيل بالبر المكيل إلا كيلا بكيل ، فعلم أن ما ليس بمكيل ولا يمكن كيله غير مراد بالنص . فالجواب عنه من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن الاستثناء يجب أن يكون بعض المستثنى منه ولا يكون كل المستثنى منه .

                                                                                                                                            ألا ترى أنه لو قال : جاءني الناس إلا بني تميم لم يقتض أن يكون كل الناس بني تميم ، فكذا إذا كان الاستثناء كيلا لم يجز أن يكون كل المستثنى منه مكيلا .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن قوله - صلى الله عليه وسلم - لا تبيعوا البر بالبر عام في الحظر ، وقوله إلا كيلا بكيل خاص في الإباحة ، وعلة الربا مستنبطة من الحظر لا من الإباحة ، فاقتضى أن يكون ما أوجبته من حكم الحظر عاما في القليل والكثير .

                                                                                                                                            والجواب الثالث : أن قليل التمر والبر موصوف بأنه مكيل : لأن له حظا في المكيال ألا ترى أنه لو احتاج وفاء المكيال إلى تمرة فتم بها تم الكيل وحل البيع . فلولا أن التمرة مكيلة [ ص: 89 ] ما تم المكيال بها وهم أولى الناس بهذا القول : لأنهم يقولون إن القدح العاشر بانفراده هو المسكر ، فكذلك التمرة الواحدة بانفرادها هي التي تم المكيال بها .

                                                                                                                                            فإن قيل : فيختص عموم الظاهر بالقياس ، فنقول : لأنه مما لا يكال ولا يوزن فوجب ألا يثبت فيه الربا كالثياب . قلنا :

                                                                                                                                            نحن نعارضكم بقياس مثله فنقول : ما ثبت الربا في كثيره ثبت في قليله كالذهب والورق . ثم نقول : قياسكم لا يجوز أن يخص به الظاهر : لأن أصله مستنبط منه ، والظاهر لا يجوز أن يكون مخصوصا بعلة مستنبطة منه .

                                                                                                                                            فصل : فأما الجواب عن استدلالهم بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء " ، وكذلك ما يكال ويوزن فهو أنها زيادة مجهولة ، لم ترد من طريق صحيح ، وعلى أنها زيادة متأولة إذا كان ما يكال ويوزن مأكولا أو مشروبا بدليل نهيه عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن ما أبيح من التساوي لا يعلم إلا بالكيل فوجب أن يكون الكيل علة الحكم . فهو أن الكيل علم الإباحة وعلة الربا مستنبطة من الحظر فلم يجز أن يكون الكيل علة الحكم .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن تعليلهم بكونه مكيلا جنسا يجمع حالتي البر صفة وقدرا ، فهو إن جاز أن يكون هذا دليلا : لأنه يجمع حالتي البر صفة وقدرا ، قابلناكم بمثله فقلنا : تعليلنا بكونه مطعوما جنسا يجمع حالتي البر صفة وجنسا . ثم يكون هذا الاستدلال أولى لأن الطعم ألزم صفة من الكيل فاقتضى أن يكون بالحكم أخص . ولا يصح قولهم بأن الجنس صفة لأن الصفة ما اختصت بالموصوف ، والجنس اسم مشترك يتناول كل ذي جنس فلم يصح أن يكون صفة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن الكيل متفق في المكيلات والأكل مختلف في المأكولات فكان التعليل بالمتفق أولى من التعليل بالمختلف .

                                                                                                                                            فهو أن الأكل متفق وإنما صفة الأكل تختلف ، كما أن الكيل وإن كان متفقا وصفته قد تختلف فبعضه قد يكال بالصاع ، وبعضه بالمد ، وبعضه بالقفيز ، وبعضه بالمكوك ثم يقال : الكيل يختلف باختلاف البلدان ، والأكل لا يختلف فكان الأكل لاتفاق البلدان ، أولى أن يكون علة من الكيل المختلف باختلاف البلدان .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن الطعم صفة آجلة والكيل صفة عاجلة ، فهو أن هذا القول فاسد : لأن البر موصوف بهذه الصفة وإن كان يوجد بعد علاج وصنعة ، كما يوصف بأنه مشبع وإن كان لا يوجد إلا بعد استهلاكه بالأكل ، كما يوصف الماء بأنه مرو وإن كانت [ ص: 90 ] صفته توجد بعد الشرب ، ثم لو قيل إن الأكل أعجل صفة من الكيل لكان أولى ، لأن الأكل ممكن مع فقد الآلة والكيل متعذر إلا بوجود الآلة .

                                                                                                                                            وأما الجواب بأن زيادة الطعم قد توجد مع تساوي الكيل ولا تحريم ، ولا توجد زيادة الكيل مع تساوي الطعم إلا مع وجود التحريم ، فهو أن يقال : إنما يلزم هذا إذا وقع التسليم بأن التساوي يعتبر بالوزن تاما ، ونحن نقول إن التساوي يعتبر بالكيل .

                                                                                                                                            فلا يلزم أن الطعم متساو فيهما وإن تفاضلا في الوزن . كما لو تساويا في الوزن وتفاضلا في الكيل كانا متفاضلين وإن تساويا في الوزن ، على أنه لا يستمر على مذهبهم أن علة الربا زيادة الكيل ، لأنهما لو تبايعا صبرة طعام بصبرة طعام كان باطلا للجهل بالتساوي وإن لم يعلم زيادة الكيل ، فلما كان الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل بطل أن يكون زيادة الكيل علة .

                                                                                                                                            فصل : فأما المذهب السابع وهو قول سعيد بن المسيب ، والشافعي في القديم أن علة الربا مأكول مكيل أو موزون جنس : احتجاجا بأن المنصوص عليه يختص بصفتين : الأكل والكيل ، وليست إحدى الصفتين أولى فاقتضى أن يكونا معا علة الحكم ، ولأن الربا إنما جعل في الأشياء التي يمكن استباحة بيع بعضها ببعض بكيل أو وزن فكان الكيل والوزن علة الحكم .

                                                                                                                                            وهذا غير صحيح : لأننا قد أبطلنا فيما مضى أن يكون الكيل علة ، وسنبطل أن يكون الوزن علة ، وإذا لم يجز أن يكونا علة : لم يجز أن يكونا وصفا في العلة ، فثبت أن الأكل وحده علة .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت هذا فما عدا الذهب والفضة تنقسم ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            قسم فيه الربا على القولين معا ، وهو ما أكل أو شرب مما كيل أو وزن .

                                                                                                                                            وقسم لا ربا فيه على القولين معا ، وهو ما ليس بمأكول ولا مشروب كالثياب والحيوان والصفر والنحاس .

                                                                                                                                            وقسم اختلف قوله فيه وهو ما أكل أو شرب مما لا يكال ولا يوزن كالرمان ، والسفرجل ، والبقول والخضر ، فعلى قوله في القديم لا ربا فيه : لأنه علل ما فيه الربا بأنه مأكول أو مشروب مكيل أو موزون . وعلل قوله في الجديد فيه الربا لأنه مطعوم جنس . واختلف أصحابنا هل يثبت فيه الربا على قوله في الجديد بعلة الأصل أو بعلة الأشباه .

                                                                                                                                            فمن متقدمي أصحابنا من قال إنما جعل فيه الشافعي الربا على قوله في الجديد بعلة الأشباه : لأنه قال : وإنما حرمنا غير ما سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المأكول المكيل والموزون : لأنه في معنى ما سمى . فجعل في المكيل والموزون الربا بعلة الأصل ثم قال بعد هذا : وما [ ص: 91 ] خرج من الكيل والوزن من المأكول والمشروب فقياسه على ما يؤكل ويكال أولى من قياسه على ما لا يكال ولا يؤكل ، فجعل ملحقا بالأصل من حيث الشبه .

                                                                                                                                            وقال آخرون من أصحابنا : بل فيه الربا على الجديد بعلة الأصل لا من حيث الشبه ، وإنما قال الشافعي ما احتج به الأولون ترجيحا للعلة . والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                            فصل : فأما علة الربا في الذهب والفضة فمذهب الشافعي أنها جنس الأثمان غالبا ، وقال بعض أصحابنا قيم المتلفات غالبا . ومن أصحابنا من جمعهما وكل ذلك قريب .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : العلة فيهما أنه موزون جنس فجعل علة الذهب والفضة الوزن كما جعل علة البر والشعير الكيل ، ودلائله في المسألتين مشتركة ، ثم خص الاحتجاج في هذه المسألة بترجيح علته وإفساد علتنا . واحتج لذلك بثلاثة أشياء :

                                                                                                                                            أحدهما : أن ثبوت الربا في الذهب والفضة مستفاد بالنص ، ولا فائدة في استنباط علة يستفاد منها حكم أصلها حتى لا يتعدى إلى غيرها . والتعليل بالوزن متعد وبالأثمان غير متعد .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو جاز تعليل الذهب والفضة بكونهما ثمنا وذلك غير متعد . لجاز تعليلهما بكونهما فضة وذهبا ، فلما لم يجز أن يعلل الذهب بكونه ذهبا ، ولا فضة بكونها فضة : لعدم التعدي لم يجز أن يعللا بكونهما ثمنا لعدم التعدي .

                                                                                                                                            والثالث : أن التعليل بالأثمان منتقض في الطرد والعكس فنقض طرده بالفلوس ، هي أثمان في بعض البلدان ولا ربا فيها عندكم . ونقضه عكسا بأواني الذهب والفضة ليست أثمانا وفيها الربا ، والتعليل بالوزن مستمر لا يعارضه نقض في طرد ولا عكس .

                                                                                                                                            والدليل على صحة علتنا وفساد علته مع ما قدمنا من الدليل من قبله ثلاثة أشياء :

                                                                                                                                            أحدها : أن التعليل بالوزن يثبت الربا في الموزون من الصفر والنحاس والقطن والكتان ، ولو ثبت فيه الربا بعلة الوزن كما ثبت في الذهب والفضة بهذه العلة لوجب أن يستوي حكم معموله ومكسوره في تحريم التفاضل فيه كما استوى حكم معمول الذهب والفضة ومكسوره في تحريم التفاضل فيه . فلما جوزوا التفاضل في معمول الصفر والنحاس دون مكسوره وتبره حتى أباحوا بيع طشت بطشتين وسيف بسيفين ، ولم يجوزوا التفاضل في معمول الفضة والذهب ، ومنعوا من بيع خاتم بخاتمين وسوار بسوارين دل على افتراقهما في العلة ، واختلافهما في الحكم ، ولو اتفقا في العلة لاستويا في الحكم فبطل أن يكون الوزن علة الحكم .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو كان الوزن في الذهب والفضة علة يثبت بها الربا في موزون الصفر والنحاس لوجب أن يمنع من إسلام الذهب والفضة في الصفر والنحاس : لاتفاقهما في علة الربا كما منع من إسلام الفضة في الذهب لاتفاقهما في علة الربا .

                                                                                                                                            [ ص: 92 ] فلما جاز إسلام الذهب والفضة من الصفر والنحاس ولم يجز إسلام الفضة في الذهب دل على افتراق للحكم بين الفضة والذهب وبين الصفر والنحاس في علة الربا فبطل أن يكون الوزن علة الربا .

                                                                                                                                            وهذان الدليلان احتج بهما الشافعي - رحمه الله - في إبطال الوزن أن يكون علة الربا .

                                                                                                                                            والثالث : أن الأصول مقررة على أن الحكم إذا علق على الذهب والفضة اختص بهما ، ولم يقس غيرهما عليهما . ألا ترى أن الزكاة لما تعلقت بهما لم يتعد إلى غيرهما من صفر أو نحاس أو شيء من الموزونات ، ولما حرم الشرب في أواني الفضة والذهب اختص النهي بهما دون سائر الأواني من غيرهما . كذلك وجب أن يكون الربا المعلق عليهما مختصا بهما ، وأن العلة فيهما غير متعدية إلى غيرهما .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأنه لا فائدة في استنباط علة ثبت حكمها بالنص من غير تعد فهو أن يقال : ليس يخلو هذا القول من أحد أمرين : إما أن يكون إبطالا لغير المتعدية ، أو يكون علة لعدم الفائدة وهو الظاهر من الاستدلال ، أو يكون إثباتا لها علة وجعل غيرها إذا تعدت أولى منها . فإن كان هذا إبطالا لغير المتعدية أن تكون علة خالفناكم : لأن غير المتعدية قد تكون عندنا علة فإن دعوا إلى الكلام فيها انتقلنا عن المسألة ، ثم نقول : العلل أعلام نصبها الله تعالى للأحكام ، فربما أراد ببعضها التعدي فجعلها علما عليه وربما أراد ببعضها الوقوف على حكم النص فجعلها علما عليه . كما أنه جعل المتعدية تارة عامة ، وتارة خاصة . كذلك جعلها تارة واقفة وتارة متعدية . فإن قيل : فالواقفة غير متعدية فيجعل الحكم معلقا بالنص دون المعنى كأعداد الركعات لما لم تكن متعدية المعنى لم يستنبط لها معنى لعدم الفائدة .

                                                                                                                                            فالجواب أن الواقفة مفيدة ، والذي يستفاد بها أمران : أحدهما : العلم بأن حكمها مقصور عليها وأنها لا تتعدى إلى غيرها وهذه فائدة .

                                                                                                                                            والثاني : أنه ربما حدث ما يشاركه في المعنى فيتعدى حكمه إليه . فأما أعداد الركعات فغير معقول المعنى فلذلك لم يمكن استنباط علة منها . فهذا الكلام عليهم إن أبطلوا العلة الواقفة .

                                                                                                                                            وإن أثبتوها وجعلوا المتعدية أولى منها كان هذا مسلما ما لم تبطل المتعدية بنقض أو معارضة ، وقد أبطلنا تعليلهم بالوزن من وجهين ذكرهما الشافعي ، ولولاهما لكان التعليل بالوزن أولى .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم بأن الاسم لما لم يكن علة لعدم تعديه ، فهو أن هذا رجوع إلى الكلام في إبطال العلة الواقفة ، وقد مضى على أن الاسم لم يجز أن يكون علة : لأنه مستفاد قبل الاستنباط لا لما ذكره من عدم التعدي .

                                                                                                                                            [ ص: 93 ] والعلة الواقفة مستفادة بعد الاستنباط فجاز أن يكون عليه مع عدم التعدي .

                                                                                                                                            وأما الجواب عما ذكروه من نقض علتنا في الطرد بالفلوس وفي العكس بالأواني ، فهو أن علتنا سليمة من النقض في الطرد والعكس : لأنها جنس الأثمان غالبا ، والفلوس وإن كانت ثمنا في بعض البلاد فنادر ؛ فسلم الطرد ، وأما العكس فلا ينتقض أيضا بالأواني : لأننا قلنا : جنس الأثمان والأواني من جنس الأثمان ، وإن لم تكن أثمانا فسلمت العلة من النقص في الطرد والعكس .

                                                                                                                                            وإذ قد انتهى الكلام بنا إلى هذا فسنذكر فصلا من العلل ، وما يتعلق عليها ويصح بها القياس الذي يتضمنها والله أعلم .

                                                                                                                                            فصل : اعلم أن القياس قياسان ، قياس طرد وقياس عكس . فأما قياس الطرد : فهو إثبات حكم الأصل في الفرع لاجتماعهما في علة الحكم . وهذا أقوى القياسين حكما ، وليس يختلف أهل القياس في القول به .

                                                                                                                                            وأما قياس العكس : فهو إثبات حكم نقيض حكم الأصل في الفرع باعتبار علته .

                                                                                                                                            وهذا قد أثبته أكثر الفقهاء قياسا وإن خالفهم أكثر المتكلمين .

                                                                                                                                            وقياس الطرد ، لا يخلو من أربعة أشياء : من أصل ، وفرع ، وعلة ، وحكم .

                                                                                                                                            فأما الأصل فهو الذي يتعدى حكمه إلى غيره ، وأما الفرع فهو الذي يتعدى إليه حكم غيره ، وأما العلة فهي التي لأجلها ثبت الحكم . وقيل الصفة الحالية للحكم ، وأما الحكم فهو المنقسم إلى :

                                                                                                                                            الإباحة ، والحظر ، والوجوب ، والندب ، والكراهة ، والاستحباب فالبر في الربا أصل ، والأرز فرع ، والأكل علة ، والربا حكم .

                                                                                                                                            ثم العلة والحكم لا بد من وجودهما في الأصل والفرع معا غير أن العلم بوجودهما في الأصل أسبق من العلم بوجودهما في الفرع ، والعلم بالحكم المعلق بالأصل أسبق من العلم بعلة الحكم في الأصل : لأن العلة تعلم بعد الاستنباط لها والحكم متقدم على الاستنباط . والعلم بالعلة في الفرع أسبق من العلم بحكم الفرع بخلاف الأصل . لأن بوجود العلة في الفرع يعلم حكم الفرع ، وبوجود الحكم في الأصل يعرف علة الأصل . ثم لا يخلو حال الحكم في الأصل من أن يكون مستفادا من ثلاثة أوجه : من نص أو إجماع أو قياس على أصل آخر . فإن كان الحكم مستفادا من نص أو إجماع ، كان المنصوص عليه أصلا بذاته فيجب حينئذ استنباط علته وتعليق حكمه على فروعه .

                                                                                                                                            وإن كان الحكم مستفادا من قياس على أصل آخر فلا يخلو حاله من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يكون الحكم قد ثبت في ذلك الأصل بمثل العلة التي يثبت بها الحكم في هذا [ ص: 94 ] الفرع ، أو يكون الحكم قد ثبت فيها بعلة أخرى . فإن كان قد ثبت الحكم في الأصل بمثل العلة المستنبطة منه لم يثبت الحكم في هذا الفرع .

                                                                                                                                            مثاله : أن تقيس الذرة على الأرز بعلة الأكل ، والأرز قد ثبت فيه الربا فهذه العلة قياسا على البر ، فإن كان هكذا لم يجز جعل هذا أصلا وكان هذا الأصل مع ما ألحق به فرعين على الأصل الأول .

                                                                                                                                            فجعل الذرة والأرز فرعين على البر المنصوص عليه لوجود علة البر فيهما على سواء ، وليس جعل الأرز المقيس على البر أصلا للذرة بأولى من جعل الذرة أصلا للأرز لاستوائهما فرعا للآخر . وإن كان الحكم قد ثبت في ذلك الأصل بعلة ورد الفرع إليه بعلة أخرى مستنبطة منه غير تلك العلة فقد اختلف أصحابنا في جواز ذلك .

                                                                                                                                            فقالت طائفة : لا يجوز ومنعوا منه : لأن الفرع إنما يرد إلى الأصل إذا شاركه في علة حكمه ، وعلة هذا الأصل التي ثبت بها حكمه هي علة أخرى لا توجد في الفرع الثاني ، وهذا مذهب من منع من القول بالعلتين .

                                                                                                                                            وقالت طائفة أخرى بجواز ذلك : لأن العلة التي ثبت بها الحكم في الأصل هي كالنص في أنها طريق الحكم ، وليس يمتنع أن يعلم بالدليل أن لعلة أخرى تأثيرا في ذلك الحكم فيرد بها بعض الفروع إليه ، وهذا مذهب من أجاز القول بالعلتين .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت حكم الأصل من أحد هذه الوجوه الثلاثة وجب على القياس اعتبار علة الحكم في الأصل لتحريها في الفرع . وقد يعلم علة الأصل من أحد ثلاثة أوجه أيضا :

                                                                                                                                            أحدها : النص الصريح .

                                                                                                                                            والثاني : التنبيه .

                                                                                                                                            والثالث : الاستنباط .

                                                                                                                                            وأما النص الصريح فنحو قوله تعالى : ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن [ النور 31 ] . ونحو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إنما نهيتكم لأجل الدافة " . فنص على العلة كما نص على الحكم .

                                                                                                                                            وأما التنبيه فمثل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب ودخل على آخرين وعندهم هرة ، وقال : إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات .

                                                                                                                                            فنبه بذلك على نجاسة الكلب : لأنه ليس من الطوافين والطوافات . وفي معنى التنبيه لجواب بالفاء نحو قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة 38 ] . فنبه بذلك على أن علة القطع السرقة .

                                                                                                                                            [ ص: 95 ] وأما الاستنباط فهو ما ورد النص بإطلاق حكمه من غير إشارة إلى علته ، ووكل العلماء إلى اجتهادهم في استنباط علته كالستة الأشياء التي نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثبوت الربا فيها . فاجتهد الفقهاء في استنباط معناها .

                                                                                                                                            وهذا النوع إنما يمكن استنباط علته بعد العلم بالدليل على صحة العلة ليعلم به العلة الصحيحة التي يجوز تعليق الحكم بها من العلة الفاسدة التي لا يجوز تعليق الحكم بها .

                                                                                                                                            وقد اختلف أصحابنا في الشروط الدالة على صحة العلة . فقال بعضهم هي أربع :

                                                                                                                                            وجود الحكم بوجودها ، وارتفاعه بارتفاعها ، وسلامتها على الأصول ، وعدم ما يعارضها مما هو أولى منها ، فجعل الطرد والعكس شرطين من شروط صحتها . وقال آخرون هي ثلاثة شروط : وجود الحكم بوجودها ، وسلامتها على الأصول ، وعدم ما يعارضها مما هو أولى منها . فجعل هذا القائل الطرد شرطا ولم يجعل العكس شرطا . وقد اختار هذا القول ابن أبي هريرة ، وزعم أن العلل الشرعية لا يستمر في جميعها الطرد والعكس ، وإنما يستمر في العلل العقليات .

                                                                                                                                            وقال الأولون : بل هذا الشرط مستمر في الشرعيات أيضا ما لم يخلف تلك العلة علة أخرى توجب مثل حكمها . وهذا أصح المذهبين عندي : لأن العلة إذا كانت موجبة بحكم ، واقتضت أن يكون الحكم بوجودها موجودا ، لزم أن يكون الحكم بعدمها معدوما ليقع الفرق بين وجودها وعدمها . والله أعلم .

                                                                                                                                            فصل : فأما فساد العلة فقد يكون من أحد ثمانية أوجه : بعضها متفق عليه ، وبعضها مختلف فيه .

                                                                                                                                            فأحدها : التعليل بالاسم وهو على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون اسما مشتقا من فعل ، كعاقد ، وقاتل ، ووارث ، فيجوز أن يكون علة .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون اسم لقب فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يعلل تحريم الخمر : لأن العرب سمته خمرا . فهذا تعليل فاسد ، لأنه يبعد أن يكون لتسمية العرب مع تقدمه على الشرع تأثير في تحريم الخمر .

                                                                                                                                            والثاني : أن يعلل تحريمه بجنسه ويعبر عن الجنس باسمه ، فيعلل تحريمه بكونه خمرا فهذا جائز : لأنه لما جاز التعليل بالصفة جاز التعليل بالجنس ، فيجوز أن تقول في نجاسة بول ما يؤكل لحمه : لأنه بول فوجب أن يكون نجسا قياسا على بول الآدمي .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : اختلاف الموضوع . وهو أن يكون أحد الحكمين مبنيا على التخفيف ، والحكم الآخر مبنيا على التغليظ فيجمع بينهما بعلة توجب حكما آخر . فقد اختلف أصحابنا هل يكون اختلاف موضوعهما مانعا من صحة الجمع بينهما ؟ فقال بعضهم : يكون هذا [ ص: 96 ] مفسدا للعلة مانعا من صحة الجمع : لأن الجمع بينهما يوجب تساوي حكمهما ، واختلاف موضوعهما يوجب التفريق بينهما .

                                                                                                                                            وقال آخرون : لا يمنع ذلك من صحة الجمع ، ولا يوجب فساد العلة : لأنه يجوز أن يكون الفرع مساويا لأصله في حكم وإن خالفه في غيره : لأن أحكامهما من كل وجه متعذر .

                                                                                                                                            والوجه الثالث من وجوه الفساد عدم التأثير : وهو أن يضم المعلل إلى أوصاف علته وصفا لو عدمته العلة في الأصل لم يعدم الحكم . ففسد بذلك أن يكون مجموع تلك الأوصاف علة ووجب إسقاط الوصف الذي لا تؤثر علته في الأصل .

                                                                                                                                            لأنه لو جاز أن يجعل من أوصاف العلة ما لا يضر فقده في الحكم أثبت ما لا نهاية له من الأوصاف .

                                                                                                                                            والوجه الرابع : الكسر . وهو أن يكون الوصف المزيد في علة الأصل احترازا من انتقاضها بفرع من الفروع ، فلا يجوز ضم هذا الوصف إليها ، وتصير العلة منتقضة على قول جمهور أصحابنا : لأن علة الأصل يجب أن يتقدم العلم بصحتها ثم يجري في فروعها . فإن لم يؤثر وصف منها في فساد العلة وهذا الوجه مؤلف من عدم التأثير والنقض .

                                                                                                                                            والوجه الخامس : القلب . وهو أن يعلق بعلة الأصل نقيض حكمها ، مثاله : أن يعلل الحنفي وجوب الصيام في الاعتكاف بأنه لبث في مكان مخصوص ، فوجب أن يكون من شرطه اقتران معنى آخر إليه .

                                                                                                                                            أصله الوقوف بعرفة : فنقلب هذا القياس عليه ونقول لأنه لبث في مكان مخصوص فوجب ألا يكون من شرطه الصوم كالوقوف بعرفة فيكون هذا فسادا للعلة . ولك في هذا المثال أن تمنع العلة بوجه سادس ، وهو القول بموجب العلة ، وهو أن تقول أنا أضم إليه معنى آخر ، وهو النية فيكون هذا قولا بموجب العلة . وهذا إنما يختص بالحكم إذا كان مجملا ، ويصير النزاع في الحكم مانعا من العلة أن تكون موجهة لما ادعاه من الحكم .

                                                                                                                                            والوجه السابع : النقض ويكون بحسب العلة .

                                                                                                                                            والعلل ضربان : علة نوع ، وعلة جنس . فأما علة النوع فمثل تعليل البر لثبوت الربا فيه بأنه مطعوم . وأما علة الجنس فمثل تعليل جنس الربا بأنه مطعوم .

                                                                                                                                            فإن كان التعليل لنوع ، كان نقض العلة فيه بوجود العلة مع ارتفاع الحكم ، فإذا وجد مطعوم ليس فيه ربا كان نقضا .

                                                                                                                                            ولا ينتقض بوجود الربا فيما ليس بمعلوم من الذهب والورق ، وإن كان التعليل للجنس كتعليل جنس الربا بأنه مطعوم انتقضت هذه العلة من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وجود العلة مع ارتفاع الحكم حتى إن كان مطعوما لا ربا فيه كان نقضا .

                                                                                                                                            [ ص: 97 ] والثاني : وجود الحكم مع ارتفاع العلة حتى إذا ثبت الربا فيما ليس بمطعوم من الذهب والورق كان نقضا ، ومتى كان الحكم جملة لم ينتقض بالتفصيل ، ومتى كان مفصلا انتقض بالجملة والتفصيل .

                                                                                                                                            وقد يحترز من النقض إذا كان بوجود العلة وارتفاع الحكم بأحد وجهين :

                                                                                                                                            إما احتراز بحكم ثبت في الأصل ، وإما احتراز بشرط مقيد بالحكم فإن كان الاحتراز بحكم ثبت في الأصل ، مثاله : تعليل الحنفي قتل المسلم بالذمي بأنهما حران مكلفان محقونا الدم كالمسلمين . فإذا نوقض بقتل الخطأ وعدم القود فيه قال :

                                                                                                                                            قد احترزت من هذا النقض بالرد إلى المسلمين ، فإن القود بينهما يجري في العمد دون الخطأ فكذا في الفرع .

                                                                                                                                            وهذا الجواب ليس بصحيح والنقض لازم : لأن العلة هي المنطوق بها ، والحكم ما صرح به ، والنقض يتوجه إلى المظهر دون المضمر .

                                                                                                                                            وإن كان الاحتراز بشرط فقيد بالحكم .

                                                                                                                                            فمثاله : إذا علل الحنفي قتل المسلم بالذمي بأنهما حران مكلفان محقونا الدم ، أن يقول : فوجب أن يثبت القصاص في العمد .

                                                                                                                                            فقد اختلف أصحابنا ، هل يكون هذا الاحتراز مانعا من النقض ؟

                                                                                                                                            فقال بعضهم : لا يمنع هذا الاحتراز من النقض ، ويكون هذا اعترافا ينقض العلة : لأن العلة ما استقلت بالذكر وكانت هي المؤثرة في الحكم ، وهذه العلة لا تؤثر إلا بشرط يقترن بالحكم .

                                                                                                                                            وقال آخرون : بل هذا الاحتراز مانع من النقض والعلة صحيحة : لأن الشرط المذكور في الحكم وإن كان متأخرا في اللفظ فهو متقدم في المعنى .

                                                                                                                                            والوجه الثامن : المعارضة . وقد تكون من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : بالنص .

                                                                                                                                            والثاني : بعلة .

                                                                                                                                            فأما معارضة العلة بالنص فينظر حال النص ، فإن كان غير مجمل كانت العلة التي عارضته فاسدة : لأن النص أصل مقدم والقياس فرع مؤخر .

                                                                                                                                            وإن كان النص مجملا جاز تخصيصه بالقياس إن كان جليا ، وفي جواز تخصيصه بالقياس إن كان خفيا . وجهان .

                                                                                                                                            وأما معارضة العلة بعلة فضربان :

                                                                                                                                            [ ص: 98 ] أحدهما : المعارضة في علة الأصل .

                                                                                                                                            والثاني : المعارضة بقياس آخر مع تسليم علة الأصل .

                                                                                                                                            فإن كانت المعارضة في علة الأصل نظر في المعلل ، فإن كان ممن لا يقول بالعلتين ، لم تسلم له العلة إلا أن يدل على صحتها أو على فسادها ما عارضها ، مثل تعليل الحنفي البر بأنه مكيل فيعارض الشافعي في علة البر بأنه مطعوم ، فلا نسلم التعليل بالكيل إلا أن يدل على صحته وفساد ما عارضه .

                                                                                                                                            وإن كان المعلل ممن يقول بالعلتين نظر في الحكمين فإن كانا متنافيين لم تسلم العلة بالمعارضة إلا بالدليل على صحتها أو فساد ما عارضها . وإن لم يتناف الحكمان فقد قيل لا تمنع المعارضة من صحة العلة . وللمعلل أن يقول : أقول بالعلتين معا .

                                                                                                                                            وقيل . بل هذه المعارضة مانعة من صحة العلة حتى يدل على أن علته هي التي أوجبت الحكم الذي ادعاه ثم يصح حينئذ قوله بالعلتين .

                                                                                                                                            وأما معارضة القياس بقياس آخر فمانع من صحة القياس أيضا ، سواء قال المعلل بالعلتين أو لم يقل : لأنه ليس رد الفرع إلى أحد الأصلين بأولى من رده إلى الأصل الآخر إلا أن يترجح أحد القياسين على الآخر بأحد ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            إما بما يرجع إلى أصله ، وإما بما يرجع إلى حكمه ، وإما بما يرجع إلى علته ، فيكون القياس المترجح بأحد هذه الوجوه أولى .

                                                                                                                                            فصل : وإذا ثبت أن صحة العلة وفسادها يعتبر بما وصفنا ، فينبغي للمعلل إذا أراد أن يستنبط علة الأصل المنصوص على حكمه أن يعتبر أوصاف الأصل وصفا بعد وصف ، فإن كان الوصف الذي بدأ باعتباره مطردا على الشروط المعتبرة علم أنه العلم الذي جعله الله تعالى علة الحكم .

                                                                                                                                            وإن لم يطرد واعترضه أحد وجوه الفساد انتقل إلى وصف ثان ، فإن وجده مطردا علم أنه علة الأصل ، وإن لم يطرد انتقل إلى وصف ثالث فاعتبره كذلك ، حتى يأتي على جميع الأوصاف فإذا سلم له أحدها جعله علة الحكم .

                                                                                                                                            فلو سلم له وصفان وصح تعليق الحكم على كل واحد منهما لاطراده على الأصول ، لم يجز تعليق الحكم بهما ، لكن يقع الترجيح بينهما ، فإذا ترجح أحد الوصفين بعمومه وكثرة فروعه أو بأحد الوجوه التي يكون بها ترجيح العلل ، علم أن الوصف الذي ترجح هو علة الحكم دون غيره ، ولو كانت أوصاف الأصل حين اعتبر بها لا يطرد واحد منها على الأصول ضممت أحد الأوصاف إلى الآخر ، فإذا صلح لك اجتماع وصفين مطردين جعلتهما معا علة الحكم .

                                                                                                                                            وإن لم يطرد الوصفان باجتماعهما ضممت إليهما وصفا ثالثا ، فإذا وجدتها مطردة [ ص: 99 ] جعلتها مجموعها علة الأصل ، وإن لم تطرد باجتماعها ضممت إليها رابعا ، ثم خامسا ، ثم سادسا ، ولا ينحصر بعد ذلك إلى أن ينتهي إلى أن يجمع أوصاف الأصل كله ويقتصر بالعلة على نفس الأصل المنصوص على حكمه ، كما قلنا في علة الذهب والفضة أنه لما لم يكن يصح تعليق الحكم على أحد أوصافها انتهى بنا التعليل إلى الاقتصار على نفس المنصوص عليه وقلنا : إن علتهما كونهما أثمانا وقيما .

                                                                                                                                            ومنع أبو حنيفة من هذا بمنعه من العلة الواقعة ، ومنع بعض أصحابنا من الزيادة على خمسة أوصاف وهذا فاسد : لأنه لا نجد فرقا بين الخمسة وبين ما زاد عليها أو نقص منها . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية