الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وإذا اشترى بالدنانير دراهم بأعيانها فليس لأحد أن يعطي غير ما وقع عليه البيع " .

                                                                                                                                            [ ص: 138 ] قال الماوردي : وهذا كما قال .

                                                                                                                                            الدراهم والدنانير تتعين بالعقد . فإذا اشترى دنانير بدراهم معينة أو ثوبا بدنانير معينة تعينت بالعقد .

                                                                                                                                            وفائدة التعيين ، أنه لا يجوز للمشتري أن يدفع غير الدراهم التي وقع عليها العقد ، ومتى تلفت قبل القبض بطل العقد .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : الدراهم والدنانير لا تتعين بالعقد ، ويجوز للمشتري أن يدفع مثل الدراهم التي وقع عليها العقد . فإن تلفت قبل القبض لم يبطل العقد : احتجاجا بقول الفراء إن للثمن شرطين : أن تصحبه الباء ، وأن يكون في الذمة ، كقوله : بعتك هذا الثوب بدينار ، فلما كان اقتران الباء شرطا لازما اقتضى أن يكون ثبوته في الذمة شرطا لازما ، فهذا من طريق اللغة ومقتضى اللسان .

                                                                                                                                            فأما من طريق الشرع ، فما روي عن ابن عمر أنه قال : يا رسول الله ، إني أبيع الإبل بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم ، وآخذ الدنانير ، فقال : " لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء .

                                                                                                                                            فموضع الدليل من هذا الخبر أن الدراهم والدنانير لو تعينت بالعقد لما جاز أخذ بدلها قبل القبض ، فلما جاز أخذ بدلها دل ذلك على أنها لا تتعين بالعقد .

                                                                                                                                            ولأن الدراهم والدنانير لما جاز إطلاق ذكرها في العقد لم تتعين بالعقد ، كما أن غير الدراهم والدنانير من السلع والعروض لما لم يجز إطلاق ذكرها في العقد تعينت بالعقد ، ولأن تعيين الدراهم والدنانير غير مفيد : لأن الدراهم المعينة كغيرها من ذلك الجنس وإن تكن معينة ، فلما سقطت فائدة التعيين وجب أن يسقط حكمه ، كما أن تعيين الميزان والوزان لما كان غير مفيد لم يتعينا ، وجاز أن يوفيه الثمن بغير ذلك الميزان والوزان .

                                                                                                                                            والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة : " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، ولا الورق بالورق ، إلا سواء بسواء عينا بعين " .

                                                                                                                                            فوصف الذهب والورق بالتعيين في العقد فدل على تعيينهما فيه .

                                                                                                                                            ولأن كل ما تعين بالقبض جاز أن يتعين بالعقد كالثياب .

                                                                                                                                            ولأن كل ما تعين فيه من غير الأثمان وجب أن تتعين فيه الأثمان كالقبض . ولأن كل سبب تعين به غير الأثمان تعين به الأثمان كالوديعة والقصب . ولأن كل ما تعين مصنوعه بالعقد وجب أن يتعين به غير مصنوعه كالصفر .

                                                                                                                                            [ ص: 139 ] ولأن كل ما لم يتعين بالعقد وجب أن يكون اشتراط التعيين فيه مبطلا لذلك العقد كالسلم . فلما كان اشتراط التعيين في الأثمان لا يبطل العقد دل على أنها تتعين بالعقد . ولأن العقد يشتمل على ثمن ومثمن ، فلما كان الثمن يتنوع نوعين : معين وهو البيع ، وغير معين وهو السلم ، اقتضى أن يكون الثمن أيضا يتنوع نوعين : معين بالإشارة وغير معين بالإطلاق .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن احتجاجه بقول الفراء ، فهو أن الثمن قد يكون تارة ذهبا وورقا ، ويكون تارة عروضا وسلعا . فلما لم يكن قوله في العروض والسلع مبطلا لتعيينها ، جاز ألا يكون قوله في الذهب والورق مبطلا لتعيينها . على أن التعيين حكم شرعي فلم يكن قول أهل اللغة فيه حجة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلاله بحديث ابن عمر ، فهو محمول على الأثمان المطلقة اعتبارا بغالب أحوال التجار في بياعاتهم ، وعرفهم الجاري في تجاراتهم .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلاله بأن ما جاز إطلاق ذكره لم يتعين ، فهو أن إطلاق ذكره إنما جاز : لأن فيه نقدا غالبا وعرفا معتبرا ، ولو كان في جنس من العروض نوع غالب وعرف معتبر ، جاز إطلاق ذكره كالنقود ، ولو كانت النقود مختلفة لم يجز إطلاق ذكرها كالعروض : لأن ما تضمنه العقد لا بد أن يكون معلوما ويصير معلوما بأحد ثلاثة أوجه : إما بالإشارة ، وإما بالصفة ، وإما بالعرف . سواء كان ذلك ثمنا أو مثمنا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلاله بأن تعيين النقود غير مفيد ، فجرى مجرى تعيين الميزان والوزان اللذين لما لم يفيدا لم يتعينا بالعقد . فهو أن في تعيين النقود للناس أغراضا صحيحة ، ولو جاز أن يكون عدم الفائدة فيها يمنع من تعيينها بالعقد لجاز أن يكون ذلك مانعا من تعيينها بالقبض أو في الغصب .

                                                                                                                                            فأما الميزان والوزان فلما كان المقصود منه مقدار المعقود عليه ، ولم يكن يملك بالعقد لم يتعين بخلاف النقود المملوكة بالعقد .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية