الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 161 ] باب ثمرة الحائط يباع أصله من كثب

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " أخبرنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من باع نخلا بعد أن يؤبر فثمرتها للبائع ، إلا أن يشترط المبتاع " ( قال الشافعي ) فإذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإبار حدا لملك البائع فقد جعل ما قبله حدا لملك المشتري " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال . إذا ابتاع أرضا ذات نخل مثمر أو ابتاع نخلا فالحكم فيهما سواء .

                                                                                                                                            وقد دخل في البيع ما اتصل بالنخل من سعف وليف .

                                                                                                                                            فأما الثمرة فلا يخلو حالها في العقد من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يشترطا دخولها في البيع ، فدخل فيه اتفاقا ، مؤبرة كانت أو غير مؤبرة

                                                                                                                                            والحالة الثانية : أن يشترطا خروجها من البيع ، فتكون خارجة منه اتفاقا مؤبرة أو غير مؤبرة ، لكن إن كانت مؤبرة لم يلزم اشتراط قطعها : لأنها خارجة بالعقد والشرط تأكيد ، وإن كانت غير مؤبرة ، قال الشافعي في كتاب الصرف : لم يجز إخراجها من العقد إلا باشتراط القطع : لأنها تخرج من العقد بالشرط فاعتبر فيه حكم ما استوفي عليه العقد من اشتراط القطع .

                                                                                                                                            والحالة الثالثة : أنها وإن كانت مؤبرة فهي داخلة في البيع .

                                                                                                                                            واستدل أبو حنيفة على أن غير المؤبرة لا تدخل في البيع بأنها مما يصح إفراده بالعقد ، فلم يجز أن يكون تبعا لأصله في البيع كالمؤبرة . قال : ولأنه عقد لا يتبعه الثمرة المؤبرة ، فوجب ألا يتبعه الثمرة غير المؤبرة كالرهن .

                                                                                                                                            قال : ولأن الثمرة نماء كالزرع ، فلما حال الزرع في كونه بذرا وظهوره بقلا في أنه لا يدخل في البيع تبعا للأرض ، وجب أن يستوي حال الثمرة في كونها في الطلع وظهورها مؤبرة [ ص: 162 ] من الطلع في ألا يدخل في البيع تبعا للنخل ، وتحريره أنه نماء لو كان ظاهرا لم يتبع أصله في البيع فوجب إذا كان كامنا لم يتبعه في البيع كالزرع .

                                                                                                                                            بأحد الوصفين انتفى ذلك الحكم عن الوصف الآخر ، فلما جعل الآبار حدا لملك البائع فقد جعل ما قبله حدا لملك المشتري .

                                                                                                                                            الثاني : أنه جعلها للبائع بشرط التأبير فلم يجز أن تجعل له مع عدم التأبير .

                                                                                                                                            ودليل ثالث من الخبر وهو أن نصه على التأبير لا يخلو من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يراد به التنبيه على غيره ، أو التميز من غيره ، فلم يجز أن يراد به التنبيه : لأن حكم ما لم يؤبر أخفى من حكم ما قد أبر ، والتنبيه ما يقصد به بيان الأخفى : ليدل على حكم الأظهر ، فثبت أن المراد به التميز عن غيره ، وأن الحكم مختص به .

                                                                                                                                            وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشد قول الأنصاري حين حرم عليه بعض ملوك الجاهلية ثمرة نخلة له :


                                                                                                                                            جددت جنى نخلتي ظالما وكان الثمار لمن قد أبر

                                                                                                                                            فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وكان الثمار لمن قد أبر
                                                                                                                                            فكان ذلك منه إثباتا لهذا الحكم .

                                                                                                                                            كما أنشد قول الأعشى :

                                                                                                                                            وهن شر غالب لمن غلب .

                                                                                                                                            فقال النبي صلى الله عليه وسلم " وهن شر غالب لمن غلب " .

                                                                                                                                            تثبيتا لهذا القول .

                                                                                                                                            وروي أن رجلين تبايعا نخلا ثم اختصما في الثمرة ، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي لقح فدل على أن التلقيح ، وهو التأبير علم يتعلق به الحكم في تمليك الثمرة ، فإن لقح البائع كانت الثمرة له ، وإن لقح المشتري اقتضى أن تكون الثمرة له .

                                                                                                                                            ولأن ثمرة النخل إذا كانت طلعا بمثابة الحمل إذا كان مستجنا ، فإذا أبرزت من طلعها كانت كالحمل إذا انفصل عن أمه ، فلما كان الحمل قبل انفصاله تبعا لأمه في البيع اقتضى أن تكون الثمرة قبل بروزها من الطلع تبعا للنخل في البيع .

                                                                                                                                            وتحريره قياسا أنه نماء مستجن في أصله فوجب إذا لم يظهر أن يكون في البيع تبعا لأصله كالحمل في البطن واللبن في الضرع .

                                                                                                                                            [ ص: 163 ] فإن قيل : المعنى في الحمل أنه لا يجوز إفراده بالعقد ، فلذلك كان تبعا ، وليس كذلك الثمرة : لأنه يجوز إفرادها بالعقد ، فلم يكن تبعا .

                                                                                                                                            قيل : هذا فاسد بأبواب الدار . ثم يقال : الحمل جار مجرى أبعاض الأم ، فلما لم يجز العقد على أبعاضها لم يجز على حملها ، والثمرة قبل التأبير تجري مجرى أغصان الشجرة ، فلما جاز العقد على أغصانها جاز على ثمرها ، ولأنها ثمرة تختلف أحوالها فجاز أن تكون تبعا لأصلها في بعض أحوالها قياسا على نور الثمار قبل انعقادها .

                                                                                                                                            فأما الجواب عما ذكروه من قياسهم على المؤبرة ، فالمعنى في المؤبرة أنها ظاهرة ، فلم تكن تبعا كالولد ، وغير المؤبرة كامنة فكانت تبعا كالحمل .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على الرهن ، قلنا : في الرهن مذهبان :

                                                                                                                                            أحدهما : يتبع الرهن ما كان غير مؤبر ، فعلى هذا سقط السؤال .

                                                                                                                                            والثاني : لا يتبع ، فعلى هذا المعنى في الرهن أنه لما ضعف عن أن تتبعه الثمرة الحادثة ضعف عن أن تتبعه الثمرة المتقدمة وليس كذلك في البيع .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على الزرع ، فالمعنى في الزرع أنه مستودع في الأرض ، وليس بحادث منها فلهذا لم يكن تبعا لها ، وليس كذلك الثمرة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية