الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 312 ] باب البيع الفاسد

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " إذا اشترى جارية على أن لا يبيعها أو على أن لا خسارة عليه من ثمنها فالبيع فاسد " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن الشرط في البيع إنما يؤثر إذا اقترن بالعقد ، فأما إن تقدمه فلا تأثير له : لأنه لا يكون شرطا وإنما يكون وعدا أو خبرا . والشروط المقترنة بالعقد على أربعة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : ما كان من مقتضى العقد وواجباته ، كاشتراط تعجيل الثمن وسلامة المبيع وضمان الدرك ؛ فهذه الشروط واجبة بالعقد واشتراطها تأكيد فيه ، والعقد لازم بها .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : ما كان من مصلحة العقد ومباحاته كاشتراط الرهن والضمين وتأجيل الثمن وخيار الثلاث ، فهذا وما شاكله لازم بالشرط دون العقد : لأن إطلاق العقد لا يقتضيه واشتراطه في العقد لا ينافيه .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : ما كان من موانع العقد ومحظوراته . وهو : كل شرط منع المشتري من واجب ، أو ألزم البائع ما ليس بواجب ، فالذي منع المشتري من واجب : أن يقول بعتك هذه الجارية على أن لا تبيعها ولا تطأها ، أو بعتك هذه الدار على أن لا تسكنها ولا تؤاجرها ، أو بعتك هذه الدابة على أنني أركبها دونك ، أو بعتك هذه الماشية على أن نتاجها ولبنها لي دونك ، أو بعتك هذه الأرض على أنني أزرعها سنة . وأما الذي ألزم البائع ما ليس بواجب . فهو أن يقول قد بعتك هذه الجارية على أن لا خسارة عليك في ثمنها ، أو على أنني ضامن لك مائة درهم من ربحها ، أو بعتك هذا النخل على أنني كفيل بمائة وسق من ثمرها ، أو بعتك هذه الأرض على أنني قيم لعمارتها وزراعتها . فهذان الضربان وما شاكلهما من الشروط باطلة ، والعقد باشتراطها فيه باطل ، وبه قال جمهور الفقهاء .

                                                                                                                                            وذهب ابن سيرين ، وحماد بن أبي سليمان ، إلى أنها شروط لازمة والعقد معها ثابت . وذهب الحسن البصري ، وابن أبي ليلى ، والنخعي ، وأبو ثور إلى صحة البيع وبطلان الشرط .

                                                                                                                                            [ ص: 313 ] وقال إسحاق بن راهويه : إن كان شرطا واحدا صح العقد ولزمه الشرط ، وإن كان أكثر من شرط بطل البيع .

                                                                                                                                            وقال مالك : إن كان شرط البائع من منافع المبيع يسيرا ، كسكنى يومين أو ثلاثة صح البيع والشرط ، وإن كثر بطل البيع والشرط .

                                                                                                                                            واستدل من أجاز البيع وأبطل الشرط بحديث بريرة أن عائشة رضي الله عنها لما أرادت شراءها منع مواليها إلا بأن تشترط لهم الولاء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اشتري واشترطي لهم الولاء ، فإن الولاء لمن أعتق ، فاشترتها ، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم الشرط ، وأمضى البيع ، وقال : ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، ولو كان مائة شرط ، وإنما الولاء لمن أعتق . والدليل على بطلان البيع والشرط ؛ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط . وهذا النهي يقتضي فساد المنهي عنه : ولأن هذه الشروط لا تخلو أن تكون على البائع أو على المشتري . فإن كانت على البائع فقد منعته من استقرار ملكه على الثمن ، وأدت إلى جهالة فيه ، وإن كانت على المشتري فقد منعته من تمام ملكه للمبيع ، وأضعفت تصرفه فيه ، فبطل العقد بكل واحد منها . واستدل من أجاز البيع والشرط بحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع منه بعيرا بأربعة دنانير ، وقال : لك ظهره حتى تأتي المدينة " . قالوا : ولا يجوز أن يشترط النبي صلى الله عليه وسلم في عقده شرطا فاسدا ، فدله على صحة البيع والشرط .

                                                                                                                                            فأما استدلال من أجاز البيع والشرط بحديث جابر ففيه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه شرط بعد صحة العقد .

                                                                                                                                            والثاني : لم يكن ذاك مع جابر بيعا مقصودا : لرواية سالم بن أبي الجعد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه الثمن ورد عليه الجمل ، وقال : " أتراني إنما ماكستك لآخذ جملك ، خذ جملك ودراهمك فهما لك " ؛ فدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد منفعته لا مبايعته .

                                                                                                                                            وأما استدلال من أجاز البيع وأبطل الشرط بحديث بريرة ، فإن هشام بن عروة وهو الذي اختص بقوله : واشترطي لهم الولاء ولم ينقل ذلك إلا عنه . على أن معنى قوله : واشترطي لهم الولاء ؛ أي : عليهم ، كما قال تعالى : لهم اللعنة [ الرعد : 25 ] أي : عليهم اللعنة . وقيل : إن الشرط إنما كان في العتق لا في البيع ، على أنه صلى الله عليه وسلم أراد بهذا الشرط إبطال الولاء لغير المعتق لتقرر الشرط عليه ، وإن كان مشروطا فكان حكمه مخصوصا . وأما ما ذهب إليه إسحاق من إجازة شرط واحد وإبطال أكثر منه فلا وجه له : لأنه إن جرى مجرى الشروط الجائزة فينبغي أن يجوز وإن كان مائة شرط ، وإن كان فاسدا فينبغي أن يبطل ، وإن كان شرطا واحدا وكذا القول لمالك .

                                                                                                                                            [ ص: 314 ] والقسم الرابع : ما كان مختلفا فيه : وهو بيع العبيد والإماء بشرط العتق ففي صحة البيع والشروط ثلاثة أقاويل :

                                                                                                                                            أحدها : أن الشرط باطل والبيع باطل ، وبه قال أبو حنيفة وصاحباه ، إلا أن أبا حنيفة قال :

                                                                                                                                            إن أعتقه نفذ عتقه بناء على أصله أن المقبوض عن بيع فاسد ينفذ فيه العتق ، لكن يضمنه في هذا الموضع بالثمن . وقال صاحباه : يضمن بالقيمة . وقال الشافعي : إن عتقه لا ينفذ فيه لزوال ملكه عنه . ووجه هذا القول في بطلان الشرط والبيع حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط فكان على عمومه ، لأن مشتري العبد على الإطلاق مخير بين أن يعتق وبين أن لا يعتق ، فلما كان إذا اشتراه بشرط أن لا يعتقه بطل البيع لإيقاع الحجر عليه ، فالشرط واجب إذا اشتراه بشرط أن يعتقه أن يبطل به البيع لإيقاع الحجر عليه بالشرط . وتحرير هذا الاستدلال قياسا أنه شرط مع كمال التصرف فوجب أن يبطل البيع كما لو شرط أن لا يعتقه . ولأنه لو ابتاعه بشرط الكتابة والتدبير فسد البيع . وكذا لو ابتاع دارا بشرط الوقف بطل البيع ، فوجب إذا ابتاعه بشرط العتق أن يكون مثله في الحكم .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن البيع صحيح والشرط صحيح ، ووجه رواية هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كاتبت بريرة على نفسها بتسع أواق في كل سنة أوقية ، فجاءت ( إلى ) عائشة تستعينها ، فقالت : لا ولكن إن شئت عددت لهم مالهم عدة واحدة ويكون الولاء لي . فذهبت بريرة إلى أهلها فذكرت لهم ذلك فأبوا عليها إلا أن يكون الولاء لهم . فجاءت إلى عائشة ( فسألتها ما قالت لهم ) فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : وما ذاك ؟ فأخبرته عائشة رضي الله عنها . فقال لها : ابتاعيها واعتقيها واشترطي لهم الولاء ( فإن ) الولاء لمن أعتق . فاشترتها فأعتقتها فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر وخطب ، وقال : " ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى ، إن من شرط شرطا ليس في كتاب الله تعالى ، فإن الشرط باطل وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق وشروطه أوثق ، ما بال رجال منكم يقولون أعتق فلانا والولاء لنا إنما الولاء لمن أعتق . فموضع الدلالة منه أن ابتياع بريرة كان بشرط العتق بدليل اشتراط الولاء ، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم البيع مع اشتراطه ، وأبطل أن يكون الولاء إلا لمعتقه . ولأنه كما كان لو قال له أعتق عبدك عني بألف صح البيع ونفذ العتق ، وإن لم يستقر للباذل على العبد مال فما استقر بالعقد ملكه وشرط عليه عتقه أولى أن يصح : ولأن استحداث الملك لا يمنع من استحقاق العتق ، ألا ترى أنه لو اشترى أباه صح بيعه ونفذ عتقه ، فوجب إذا لم ينافيه أن يصح اشتراطه فيه ، ولأن للعتق فضل مزية على غيره من الشروط : لأنه ينفذ في الملك ويسري إلى غير الملك ويقع باختيار وغير اختيار فيمن اشترى والدا أو ولدا فوجب أن يكون له فضل مزية على غيره من الشروط في صحة العقد به ، وإن بطل بغيره وليس لاعتبار اشتراط [ ص: 315 ] العتق بأن لا يعتق وجه لما ذكرنا من فضل مزية العتق على غيره ، ولا لاعتباره بالكتابة : لأن الكتابة معاوضة بشبه اشتراط بيعه ولا تشبه اشتراط عتقه .

                                                                                                                                            والقول الثالث : أن الشرط باطل والبيع جائز ، وبه قال أبو ثور ، وهو الناقل لهذا القول عن الشافعي ، وليس يعرف له ولا يحفظ عنه إلا من جهة أبي ثور ، ووجهه ضعيف : لأن الشرط الفاسد لا يصح معه البيع في موضع بحال ، فليس جائز أن يكون مذهبا ، فإن جاز أن يكون مذهبا فلعل من دليل قائله حديث بريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أبطل بيعها باشتراط العتق ، ولا ألزم عائشة عتقها فإنما أعتقت باختيارها . فإذا تقرر توجيه هذه الأقاويل فإن قلنا بالقول الأول أن البيع والشرط باطلان فلا تفريع عليه ، وإن قلنا بالقول الثاني أن البيع والشرط صحيحان فقد استحق عليه عتقه بالشرط ، فإن أعتقه فقد فعل مما لزمه ويكون ولاؤه له : لأنه هو المعتق له ، وإن لم يعتقه فهل يجبر على عتقه أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يجبر على عتقه لاستحقاقه عليه بالشرط ، وهذا قول أبي سعيد الإصطخري ، فعلى هذا لو جنى العبد قبل عتقه لم يجز بيعه في جنايته ، وأخذ المشتري بفديته : لأن استحقاق عتقه سبب من جهته فجرى مجرى أم ولده .

                                                                                                                                            والثاني : لا يجبر عليه لاستقرار ملكه عليه فعلى هذا يكون لبائعه الخيار في فسخ البيع لأجل شرطه . فلو تسلمه المشتري فلم يعتقه على الوجهين معا حتى مات في يده كان في قدر ما يضمنه المشتري به ، ثلاثة أوجه لأصحابنا :

                                                                                                                                            أحدها : أنه يضمنه بالثمن : لأنه مقبوض عن بيع صحيح .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه يضمن بالثمن وبالقدر الذي سمح به البائع حين شرط عتقه : لأن ما في مقابلة السماحة في العتق لم يوجد .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : أنه يضمن بالقيمة دون الثمن ويكون موته قبل العتق مبطلا لبيعه لفوات الشرط فيه .

                                                                                                                                            وإن قيل : بالقول الثالث الذي حكاه أبو ثور أن البيع صحيح والشرط باطل ، فعتقه غير مستحق على مشتريه لفساد اشتراطه ويكون مخيرا بين عتقه وإمساكه . فإن أعتقه نفذ عتقه ولا مضار لبائعه ، وإذا عتقه المشتري عن كفارة واجبة فهل يجزيه أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أصحهما : يجزيه لأنه قد كان مالكا له ومخيرا في عتقه .

                                                                                                                                            والثاني : لا يجزيه لأن هذا الشرط موكس في ثمنه فكان كالنقص به .

                                                                                                                                            وإن امتنع المشتري من عتقه فهل للبائع خيار في فسخ البيع على المشتري أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            [ ص: 316 ] أحدهما : وهو قول البغداديين لا خيار له لفساد الشرط .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول البصريين له الخيار : لأن فساد الشرط يمنع من لزومه ولا يمنع من استحقاق الخيار ، كما لو شرط في البيع رهنا لم يلزم وأوجب خيار البائع ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية