الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : ( ومن بيوع الغرر عندنا بيع ما ليس عندك وبيع الحمل في بطن أمه ، والعبد الآبق ، والطير والحوت قبل أن يصطادا ، وما أشبه ذلك " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال . أما بيع الغرر فقد ورد النهي عنه بثلاثة ألفاظ ، فروي أنه نهى عن بيع الغرر ، وروي أنه نهى عن عقد الغرر ، وروي أنه نهى عن الغرر . رواه ابن المسيب تارة مرسلا ، وتارة عن أبي هريرة مسندا .

                                                                                                                                            وقد رواه يحيى بن أبي كثير ، عن عطاء ، عن ابن عباس أيضا .

                                                                                                                                            وحقيقة الغرر : ما تردد بين جوازين متضادين الأغلب منهما أخوفهما ، فمن بيوع الغرر التي يبطل فيها ما ذكره الشافعي :

                                                                                                                                            وهو بيع ما ليس عندك ، وبيع الحمل في بطن أمه ، والعبد الآبق ، والطير والحوت قبل أن يصطادا . فذكر هذه الخمسة من بيوع الغرر وأبطل العقد عليها . ونحن نشرح القول في كل واحد منها .

                                                                                                                                            أما قوله : ومن بيوع الغرر عندنا بيع ما ليس عندك ، فقد اختلف أصحابنا في مراده ، فقال بعضهم : أراد به أن يبيع الرجل سلعة لا يملكها بيعا عن نفسه لا عن مالكها ، ثم يمضي فيبتاعها ويدفعها إلى مشتريها ، وهذا بيع باطل ، لا أعلم فيه خلافا : لورود النهي نصا فيه وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحكيم بن حزام بعد قدومه إلى المدينة مسلما : " لم يبلغني يا حكيم أنك تبيع ما ليس عندك . لا تبع ما ليس عندك " . فهذا يدل على ما قلنا ، حتى يجوز قوم بهذا الحديث وجعلوه دليلا في إبطال السلم ، وهذا ليس بصحيح ، بل المقصود به ما ذكرنا .

                                                                                                                                            وقد روي تفسيره بمثل ما قلنا عن حكيم بن حزام أيضا . وروى يوسف بن ماهك ، عن حكيم بن حزام ، قال : يا رسول الله يأتيني الرجل فيريد مني بيع ما ليس عندي أفأبتاعه له من السوق ، فقال : " لا تبع ما ليس عندك " .

                                                                                                                                            وقال آخرون : بل أراد الشافعي بقوله : ومن بيوع الغرر عندنا بيع ما ليس عندك ، بيع العين الغائبة على خيار الرؤية ، فإن أصح القولين من مذهبه بطلان أصل البيع فيها : لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ، وبيع العين الغائبة غرر . واتفق أصحابنا على أن الشافعي لم يرد بهذا القول بيع ملك الغير على إجازته : لأنه قد نص عليه من بعد ، واحتج على مخالفيه فيه " .

                                                                                                                                            فصل : وأما بيع الحمل في بطن أمه فباطل : لأنه غرر وقد نهي عن بيع الغرر . ولما روي [ ص: 326 ] عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع التجر ، وهو بيع الحمل على أنه متفق عليه . وإذا بطل بيع الحمل في بطن أمه منفردا بطل بيع الأم دون حملها : لأن ما لا يصح أن يفرد بالعقد لا يصح أن يستثنى من العقد ، وهكذا لو كانت أمة حاملا بحر لم يجز بيعها : لأن بيع حملها لا يصح ، فصار مستثنى من العقد ، واستثناء الحمل من العقد لا يصح ، ولو ابتاع أمة أو شاة على أنها حامل كان في صحة البيع قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : يصح : لأن للحمل أمارات دالة عليه .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن البيع باطل : لأنه شرط ما لا يتيقنه .

                                                                                                                                            فصل : وأما بيع العبد الآبق فباطل . وحكي عن ابن عمر أنه جوز بيع الآبق ما لم يتقادم عهده . وعن ابن سيرين أنه جوز بيعه إذا عرف مكانه .

                                                                                                                                            والدليل على بطلان بيعه ، نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ، وبيع الآبق من أعظم الغرر . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الآبق وهذا نص ، ولأن ما تعذر تسليمه لم يجز بيعه ، والآبق متعذر التسليم . فإذا ثبت أن بيع العبد الآبق لا يجوز ، فكذلك الجمل الشارد ، وكل شيء ضال أو ضائع ، فلو باع آبقا ثم وجده لم يلزمه تسليمه إلى المشتري : لفساد بيعه حتى يستأنفا بيعه بعد وجوده . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : بيع الآبق فاسد ، فإن وجده بعد بيعه صح البيع الأول فيه ولزمه تسليمه .

                                                                                                                                            لأن عنده أن عقد البيع ينقسم ثلاثة أقسام : قسم ينعقد صحيحا ، وقسم ينعقد باطلا لا يصح من بعد ، وقسم يقع فاسدا قد يجوز أن يتعقبه الصحة من بعد ، كبيع العبد الآبق ، فإنه فاسد ، فإن وجد صح ، وكالبيع إذا اشترط فيه خيار أكثر من الثلاث فاسد إلا أن يبطل ما زاد على الثلاث قبل تقضي الثلاث ، فيصح . وهذا مذهب يغني ظهور فساده عن تكلف الدلالة عليه ، لأن فساد العقد لو جاز أن يصح لحادث من بعد لجاز أن يكون كل عقد ، ولجاز أن تكون شروط صحته معتبرة من بعد ، وفي هذا مخالفة الأصول فيما استقرت عليه أحكام العقود ، والله أعلم .

                                                                                                                                            فصل : وأما بيع الطير في الهواء فإن كان غير مملوك لم يجز لمعنيين :

                                                                                                                                            أحدهما : عدم ملكه .

                                                                                                                                            والثاني : تعذر تسليمه ، وإن كان مملوكا له لم يجز بيعه لمعنى واحد وهو تعذر تسليمه ، فلو كان الطير حماما قد يرجع بعد الطيران إلى برجه ، لم يجز بيعه أيضا ، لأنه قد لا [ ص: 327 ] يعود ، فإن قيل : أليس لو باع عبدا قد أرسله في حاجة جاز ، وقد يجوز أن لا يعود ، فهلا كان الطير الألف مثله . قلنا : لأن العبد ليس يعجز الناس عن أخذه ، وإن بعد عن سيده ، فكان في حكم المقدور عليه ، ليس كذلك الطير : لأنه قد يعجز الناس عن أخذه ، وكان خروجه عن اليدين يرفع حكم القدرة عليه .

                                                                                                                                            فأما إن كان الطير في برج مالكه : فإن كان باب البرج مفتوحا لم يجز بيعه : لأنه قد يقدر على الطيران فصار في حكم ما طار ، وإن كان باب البرج مغلقا جاز بيعه لظهور القدرة عليه وتسليمه بالتمكين منه في برجه ، وتمام قبضه بإخراجه من برجه . أما إذا فرخ الطائر في دار رجل لم يكن فرخه ، وكذا ما ولده الصيد في أرضه ، غير أنه أولى بصيده من جميع الناس لما يستحقه من التصرف في ملكه ، وإن له منع الناس عنه من دخول أرضه وداره .

                                                                                                                                            فلو أن صاحب الدار باع فرخ الطائر أو ولد الصيد قبل أخذه لم يجز : لأنه وإن كان مقدورا عليه فلم يثبت ملكه عليه .

                                                                                                                                            ألا ترى أن غير صاحب الدار لو أخذ الفرخ ملكه .

                                                                                                                                            فأما بيع نحل العسل فإن لم يكن طائرا لصغره أو لأنه قد حصل في كندوجه جاز بيعه بعد مشاهدته ، وإن كان قد خرج عن كندوجه طائرا لرعيه ثم يعود ليلا إلى كندوجه على عادة جارية ، ففي جواز بيعه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز ، وهو قول أبي حنيفة : لأنه غير مقدور عليه في الحال كالطير الألف إذا طار .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي العباس بن سريج أن بيعه جائز ، وإن كان طائرا بخلاف الطير الطائر . والفرق بينهما أن النحل إن حبس عن الطيران تلف : لأنه لا يقوم إلا بالرعي ولا يقع فيه إلا عند طيرانه ليرعى ما يستخلف عسلا ، وليس كذلك ما سواه من الطير ؛ لأن حبسه ممكن ومنفعته مع الحبس حاصلة .

                                                                                                                                            فصل : وأما بيع السمك في الماء : فإن كان في بحر أو بئر ولم يكن محرزا في بركة أو حوض لم يجز بيعه للمعنيين الماضيين في بيع الطير في الهواء .

                                                                                                                                            وإن كان في بركة أو حوض وحظر عليه حتى لا يقدر على الخروج لم يخل حال السمك من أحد أمرين : إما أن يكون مشاهدا أو غير مشاهد : فإن كان غير مشاهد كان بيعه باطلا ، وغلط بعض أصحابنا فجعله كالعين الغائبة إذا بيعت لخيار الرؤية ، وهذا غلط : لأن العين الغائبة قد يمكن صفتها لتقدم مشاهدة البائع لها ، وهذا مما لم يتقدم مشاهدته ، ولا يمكن صفته ، ولا تعلم قلته ولا كثرته ، ولا جودته ولا رداءته .

                                                                                                                                            فإن كان السمك مشاهدا لقلة الماء وصفائه ، وإن كان السمك كثيرا يمكن أخذه بغير آلة جاز بيعه للقدرة عليه ، وخالف فرخ الطائر الذي لا يجوز بيعه مع القدرة عليه : لأن حصول [ ص: 328 ] الفرخ في أرضه بغير فعله وحصول السمك بفعله ، وإن كان لا يمكن أخذه إلا بآلة ولا يقدر على صيده إلا بشبكة ، فبيعه لا يجوز : لأنه لم يحصل بعد فوت القدرة .

                                                                                                                                            وخرج ابن سريج قولا آخر : أن بيعه جائز . وليس بصحيح لما ذكرنا ، والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية