الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 366 ] مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " وإذا كنا نأمر الوصي أن يشتري بمال اليتيم عقارا : لأنه خير له ، لم يجز أن يبيع له عقارا إلا لغبطة أو حاجة " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال . لا يجوز للولي أن يبيع من مال اليتيم عقارا أو أرضا إلا في حالتين : غبطة أو حاجة ، ولا يجوز له فيما سوى هاتين الحالتين أن يبيع ذلك عليه ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من باع عقارا ولم يرد ثمنه في مثله فذلك مال قمن أن لا يبارك فيه " أي : حقيق أن لا يبارك فيه .

                                                                                                                                            ولأن الولي مأمور أن يبتاع بمال اليتيم عقارا فلم يجز أن يبيع عليه عقارا .

                                                                                                                                            فإذا ثبت أنه لا يجوز أن يبتدئ ببيع عقاره إلا في حالتي الغبطة والحاجة ، فالغبطة أن يكون له سهم مشاع من عقار يرغب فيه الشريك ليعمل له الملك فيبذل فيه أكثر من ثمنه ، أو يكون له عقار محوز يرغب فيه الجار أو غيره لعرض حصته ، فيزيد في ثمنه زيادة ظاهرة لا يجدها الولي من غيره ولا فيما بعد وقته .

                                                                                                                                            فهذه غبطة ينبغي للولي أن يظفر بها ويأخذها لليتيم ، فيبيع لأجلها العقار ويأخذ ثمنه ، فيبتاع له به عقارا مسترخصا مغلا في موضع حي كامل العمارة أو متوجه إلى كمال العمارة . ولا يجوز أن يبتاعه في موضع قد خرب أو هو متوجه إلى الخراب : لما فيه من إضاعة ماله .

                                                                                                                                            أما بيعه في الحاجة ، فالحاجة من وجوه :

                                                                                                                                            منها : أن تكون غلة عقاره لا تكفيه ويحتاج إلى نفقة وكسوة لا يستغني عنها ، فلا بأس أن يبيع من عقاره قدر ما يصرفه في نفقته وكسوته . ومنها : أن تكون له ضيعة قد خربت أو عقار قد انهدم وليس له ما يعمره به ، فلا بأس أن يبيع من عقاره قدر ما يعمر به ما خرب من ضياعه أو انهدم من عقاره .

                                                                                                                                            ومنها : أن يكون العقار في موضع قد كثر خرابه وخيف ذهابه ، فلا بأس أن يبيعه ليباع بثمنه في موضع عامر .

                                                                                                                                            ومنها : أن يكون العقار في بلد يبعد عن اليتيم والولي فلا يقدر على مراعاته ويلزمه من أجرة القيم به أكثر من غلته ، فلا بأس أن يبيع ذلك ليبتاع بثمنه عقارا في بلد اليتيم والولي ، ليقرب على الولي مراعاته ويتوفر على اليتيم غلته . إلى غير ذلك من أشباه ما ذكرنا . فأما بيع عقاره في التجارة به فلا يجوز بحال لما قدمنا . والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            [ ص: 367 ] فصل : فإذا ثبت ما وصفنا من أموال الأيتام من بيع المتاع وشرائه للتجارة ، ومن بيع العقار في الغبطة والحاجة وشرائه للقنية ، فلا يخلو حال الولي المتولي ذلك من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            إما أن تكون ولايته بأبوة ، وإما أن تكون بوصية ، وإما أن تكون بتولية حاكم عن أمانة .

                                                                                                                                            فإن كانت ولايته بالأبوة : كالآباء والأجداد الذين يلون بأنفسهم على أولادهم وأموالهم ، فعقودهم في أموال أولادهم ماضية ، وعلى القضاة والحكام إنفاذها من غير تكليفهم بينة لحصول الحظ فيما عقدوه لهم وعليهم من بيع أو شراء ، إلا أن تقوم بينة بأن ما عقده الأب في مال ابنه من بيع أو شراء لم يكن حظا فيبطله حينئذ ، فإن لم تقم بينة ففعله ماض من غير بينة ، وقوله فيما أنفق مقبول من غير بينة ، ما لم يجاوز الحد : لانتفاء التهم عن الآباء لما جبلوا عليه من الميل إلى أولادهم وطلب الحظ الأوفى في تثمير أموالهم .

                                                                                                                                            فأما الأوصياء وأمناء الحكام فما فعلوه في أموال الأيتام ينقسم ثلاثة أقسام : قسم تقبل فيه أقوالهم من غير بينة بأن فيه حظا لهم إلا أن تقوم بينة بخلافه ، وهو التجارة لهم بالبيع والشراء ، فلا يكلفوا فيما باعوه واشتروه من الأمتعة والعروض إثبات البينة لحصول الحظ فيه ، بل على الحكام إمضاؤه بقولهم إنه حظ ، ما لم تقم بينة بخلافه : لأنها عقود يعسر إقامة البينة بحصول الحظ في كل عقد منها اعتبارا بالمضاربة في قبول قول العامل في صحة ما عقده من بيع وشراء من غير بينة يكلفها . فهذا أحد الأقسام .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : ما لا يقبل فيه أقوالهم إلا ببينة ، وهو ما باعوه على الأيتام من أرض أو عقار ، فلا يجوز للحكام إمضاء العقد فيه إلا بقيام البينة أن بيع ذلك حظ لوجود الغبطة أو حدوث الحاجة : لأن الأصل في بيع ذلك على الأيتام الحظر والمنع إلا عند تحقق السبب المبيح .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : ما اختلف فيه ، وهو ما ابتاعوه للأيتام من عقار فبنوه ، ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن قولهم مقبول فيه ، وعلى الحكام إمضاؤه من غير تكليف بينة إلا أن يثبت عندهم بينة بخلافه ، كما يقبل قولهم في أموال التجارات ، وكما يقبل قول الآباء في البياعات .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن قولهم غير مقبول إلا ببينة تثبت بأن ما ابتاعوه للأيتام حظ ، فإذا قامت به البينة عند الحكام وجب عليهم إمضاؤه ، وما لم تقم به البينة لم يمضوه ، كما لا يقبل قولهم في البيع ، وإن قبل فيه قول الآباء ؛ لأن التهمة تلحقهم دون الآباء ، ولأن إقامة البينة بذلك لا تشق عليهم ؛ والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية