الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 386 ] فصل : فإذا ثبت ما ذكرناه من هذه الأحكام التسعة في تعلقها بالحيض كان دم حيضها باقيا فالأحكام بحالها والتحريم ثابت . وإن انقطع دمها واغتسلت حل جميع ذلك لها لارتفاع حيضها ، وعودها إلى حال الطهر . فأما بعد انقطاع دمها وقبل الغسل فتقسم هذه التسعة ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            قسم : يجوز لها فعله قبل الغسل : وهو الصوم وحده : لأن الصوم لا يفتقر إلى طهارة فجاز لها الدخول فيه قبلها .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : ما لا يجوز لها فعله قبل الغسل وهو الصلاة ، والطواف ، ومس المصحف ، وقراءة القرآن ، وفي دخول المسجد وجهان : إلا أن فرض الصلاة قد وجب عليها بانقطاع الدم وإن لم تغتسل ولا يجوز أن تصلي إلا بعد الغسل . فإذا اغتسلت قضت ما تركت من الصلاة بعد انقطاع دمها وقبل الغسل لقوله صلى الله عليه وسلم : " فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي " .

                                                                                                                                            فصل : والقسم الثالث : ما اختلف الفقهاء فيه وهو الوطء .

                                                                                                                                            فذهب الشافعي ومالك وجمهور الفقهاء إلى بقائه على التحريم حتى تغتسل .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : إن انقطع انقطع دمها لأكثر الحيض وهو عنده عشرة أيام جاز وطؤها قبل الغسل ، وإن انقطع لأقل من العشرة لم يجز وطؤها إلا أن تغتسل أو يمر عليها وقت صلاة استدلالا بقوله سبحانه وتعالى : ولا تقربوهن حتى يطهرن [ البقرة : 222 ] فجعل انقطاع الدم غاية . والحكم بعد الغاية مخالف لما قبلها قال : ولأنها أمنت معاودة الدم فجاز وطؤها كالمغتسلة . قال : ولأنها استباحت فعل الصوم فجاز وطؤها كالمتيمم . قال : ولأنه حكم وجب بعلة زال بزوالها ، وعلة التحريم : حدوث الدم . فوجب أن يزول بانقطاع الدم قال : ولأنه لم يبق بعد انقطاع الدم إلا وجوب الغسل وبقاء الغسل لا يمنع من استباحة وطئها كالجنب .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله سبحانه وتعالى : ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله [ البقرة : 222 ] والاستدلال بها من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن في الآية قراءتين إحداهما : بالتخفيف وضم الهاء . ومعناها : انقطاع الدم . والأخرى بالتشديد وفتح الهاء معناها الغسل . واختلاف القراءتين كالآيتين فيستعملان معا . ويكون تقدير ذلك : فلا تقربوهن حتى ينقطع دمهن ويغتسلن .

                                                                                                                                            [ ص: 387 ] والوجه الثاني : أنه قال تعالى : فإذا تطهرن فأتوهن فجعل بعد الغاية شرطا هو الغسل لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : إضافة الفعل إليهن وليس انقطاع الدم من فعلهن وإنما يفعلن الطهارة .

                                                                                                                                            والثاني : أنه أثنى عليهن بقوله سبحانه وتعالى : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ البقرة : 222 ] والثناء يستحق بالأفعال الصادرة من جهة من توجه الثناء إليه . فأما فعل غيره فلا يستحق عليه مدحا ولا ذما وإذا كان كذلك فكل حكم تعلق بغاية وشرط لم يجز أن يستباح بوجود الغاية مع عدم الشرط . وهذا مثل قوله سبحانه وتعالى : وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم [ النساء : 6 ] فجعل بعد الغاية التي هي البلوغ للنكاح شرطا هو إيناس الشرط . فلم يجز دفع أموالهم إليهم بعد البلوغ وقبل الرشد . والمعنى هو أن كل ممنوعة من الصلاة بحدث الحيض فوطؤها حرام . قياسا على زمان الحيض ، ولأن كل ما حرم الوطء وغيره لم يحل الوطء مع بقاء شيء حرمه معه كالحج ، ولأن محظورات الحيض يستوي حالها عند ارتفاع الحيض بين انقطاعه لأكثره وأقله كالصلاة والصيام ، ولأن كل معنى شرط في إباحته الطهارة لم يستبح بغير طهارة كالصلاة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن الآية فهو ما ذكرناه من الاستدلال بها . وأما قياسهم على المغتسلة بعلة أنها أمنت معاودة الدم فلا تأثير لهذا الوصف . لأنها لو اغتسلت قبل أن أمنت معاودة الدم فله وطؤها . ثم المعنى في المغتسلة استباحتها للصلاة ، وكذا قياسه على المتيممة على أنه منتقض بالتي انقطع دمها لدون العشرة قبل طلوع الفجر فاستباحت الدخول في الصوم ولم تستبح الوطء .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلاله بأن ارتفاع العلة وقت لارتفاع حكمها : فهو أن لأصحابنا فيه خلافا . ولو سلم له ذلك لكان كذلك ما لم يخلف تلك العلة علة أخرى وقد خلفتها علة وهي المنع من الصلاة لحدث الحيض وأما قياسهم على بقاء الغسل من الجنابة فالفرق في المعنى يمنع صحة الجمع وهو أن الجنابة لما لم تمنع من الوطء لم يكن بقاء الغسل عليها مانعا . ولما منع الحيض من الوطء كان بقاء الغسل فيه مانعا .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت أن وطأها قبل الغسل حرام فمتى كانت قادرة على استعمال الماء فعليها استعماله والاغتسال به . وإن كانت عادمة للماء قام التيمم في استباحة الوطء مقام الغسل لأن التيمم بدل منه عند عدمه . فلو أحدثت بعد التيمم منعت من الصلاة حتى تتيمم لأن حدث الحيض قد ارتفع وطرأ حدث غيره فلا يمنع من " الوطء . ولكن لو رأت الماء بعد التيمم حرم وطؤها حتى تغتسل ، لأنها بوجود الماء قد عادت إلى حدث الحيض المانع من [ ص: 388 ] الوطء . فلو عدمت الماء والتراب حلت لحرمة الوقت ولم يجز وطؤها لعدم الطهارة . فإذا تيممت فوطأها ثم أراد وطأها ثانية فقد اختلف أصحابنا في جوازه بالتيمم الأول على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز أن يطأها ثانية حتى تعيد التيمم ثانية . كما لا يجوز أن تصلي فريضة ثانية إلا بتيمم ثان . وهو قياس قول أبي العباس .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يجوز لارتفاع حدث الحيض بالتيمم المتقدم . فأما إذا تيممت الحائض ودخل عليها وقت صلاة أخرى . فقد اختلف أصحابنا هل يجوز وطؤها بالتيمم المتقدم في الوقت الماضي أم لا على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول ابن سريج : قد بطل تيممها بخروج الوقت فلا يجوز وطؤها في الوقت الثاني إلا باستئناف تيمم ثان . لأن التيمم أضعف حالا من الغسل فقصر حكمه عن حكم الغسل .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو أصح عندي يجوز وطؤها بعد دخول الوقت الثاني من غير إحداث تيمم ثان : لأنه ليس خروج الوقت بأغلظ من الحدث . فلما لم يكن طروء الحدث على التيمم فخروج الوقت ودخول غيره أولى والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية