الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما الضرب الثاني من الأنساب وهي التي يتخللها وسيط في لحوقها واتصالها كالأخوة يصل الأب بين أنسابهم وكالجد الذي يصل الأب بينه وبين ابن الابن .

                                                                                                                                            فإن كان الوسيط الواصل بين أنسابهم باقيا فلا اعتبار بإقرار من سواه وإن كان ميتا اعتبر إقرار جميع ورثته في ثبوت نسب المدعي من عصبته ، أو ذي فرض رحم ، وهل يعتبر فيه إقرار الزوج ، والزوجة أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو مذهب البغداديين يعتبر إقرارهما في لحوقه لاستحقاقهما الإرث كالمناسبين .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو مذهب البصريين لا يعتبر إقرارهما في لحوقه ؛ لأنه لاحق لهما في النسب فلم يعتبروا إقرارهما بالنسب .

                                                                                                                                            وعلى هذين الوجهين هل يراعى فيمن ادعى أنه أخ لأم تصديق الأخ للأب إذا كان وارثا ؟ وفيمن ادعى أنه أخ لأب هل يراعى تصديق الأخ للأم إذا كان وارثا ؟

                                                                                                                                            فعلى مذهب البغداديين يراعى تصديقه في ثبوت النسب لكونه وارثا ، وعلى مذهب البصريين لا يراعى تصديقه ؛ لأنه لا نسب بينهما .

                                                                                                                                            [ ص: 98 ] فإذا تقرر هذا فقد يكون بين أنساب المتداعيين وسيط واحد ، وقد يكون بينهما وسيطان ، وقد يكون بينهما ثلاثة وسائط ، وقد يكون بينهما أكثر ، فيستدل على حكمه بما تقدم .

                                                                                                                                            فإن كان بينهما وسيط واحد فكالإخوة فإذا ادعى رجل إخوته وأنه ابن أبيهم فمن شرط صحة هذه الدعوى عليهم مع ما ذكرنا من شروط دعوى النسب أن يكون الأب ميتا ، ثم يكون لحوقه معتبرا بإقرار ورثة الأب كلهم . فإن كان الأب قد ترك ابنا واحدا فصدق المدعى على نسبه ثبت نسبه ، وإن ترك ابنين فصدقاه ثبت نسبه ، وإن صدقه أحدهما لم يثبت ، وإن ترك أبا وابنا فاجتمعا على تصديقه ثبت نسبه وإن صدقه أحدهما لم يثبت ، وإن ترك بنتا وأخا فاجتمعا على تصديقه ثبت نسبه وإن صدقه أحدهما لم يثبت ، وكذلك لو ترك بنتا وأخا وأختا ، ولو ترك أخا واحدا فصدقه ثبت النسب ؛ لأن الأخ يحوز الميراث ولو ترك أختا واحدة فصدقته لم يثبت نسبه ؛ لأن الأخت ترث النصف ، ولا تحوز الميراث ، والباقي بعده لبيت المال قال أبو حامد الإسفراييني رحمه الله فإن صدقه الإمام معها ثبت نسبه ؛ لأن الإمام في حق بيت المال نافذ الإقرار فصار إقراره مع الأخت إقرارا من جميع الورثة .

                                                                                                                                            وهذا غير صحيح ؛ لأن الإمام لا يملك حق بيت المال فيثبت الإقرار ، ولا يتعين مستحقه من المسلمين فيراعى إقرارهم فيه فإن كان إقرار الإمام لبينة قامت عنده بنسبه فذلك حكم منه تثبت به النسب ، ولا يراعى فيه إقرار الأخت ، وإن كان بغير بينة قامت به فإقراره لغو ونسب المدعي غير ثابت ، ولو كان للأخت ولاء عتق على الميت فأقرت بالمدعي ثبت نسبه ؛ لأنها تحوز الميراث بالفرض ، والولاء .

                                                                                                                                            وهكذا إقرار البنت إذا لم يكن معها ابن كإقرار الأخت إذا لم يكن معها أخ فلا يثبت النسب بإقرارها ؛ لأنها لا تحوز الميراث إلا أن يكون لها على الأب ولاء فيثبت النسب بإقرارها ؛ لأنها تحوز الميراث كله بالفرض ، والولاء .

                                                                                                                                            فلو كان الأب الميت مسلما وترك ابنين مسلما وكافرا فصدقه المسلم ثبت نسبه ؛ لأن الكافر غير وارث فلم يعتبر إقراره وسواء كان مدعي النسب مسلما ، أو كافرا فلو أسلم الابن الكافر بعد موت أبيه فأنكر المدعي لم ينتف نسبه ؛ لأنه لم يكن وارث أبيه فلم يؤثر إنكاره .

                                                                                                                                            ولو كان الأب الميت كافرا وترك ابنين مسلما وكافرا فصدقه الابن الكافر ثبت نسبه ؛ لأنه وارث أبيه ولو صدقه المسلم لم يثبت نسبه ؛ لأنه ليس بوارث لأبيه .

                                                                                                                                            وهكذا لو كان أحد الابنين حرا ، والآخر عبدا كان ثبوت النسب بإقرار الحر دون العبد ؛ لأن الحر وارث ، والعبد غير وارث ، وإن عتق العبد بعد موت الأب لم يعتبر تصديقه ، ولا إنكاره ؛ لأنه لم يكن وارثا . فلو كان أحد الابنين صغيرا ، أو معتوها فأقر البالغ العاقل منهما بنسب [ ص: 99 ] المدعي لم يثبت نسبه ؛ لأنه أحد الوارثين حتى يبلغ الصبي ويفيق المعتوه فيقر به فيثبت نسبه ، وهل يجب أن نوقف حصة المقر به من حصة المقر أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : لا توقف كما في حصة الصغير ؛ لأن النسب لم يثبت .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يوقف منه قدر حصته اعتبارا بصحة إقراره ما لم يبطل بإنكار أخيه .

                                                                                                                                            فإن مات الصغير ، أو المعتوه قبل البلوغ ، أو الإفاقة روعي إقرار وارثه فإن كان وارثه الأخ المقر ثبت نسب المدعي بالإقرار السابق ، ولا يفتقر إلى إقرار ثان بعد موت الصغير ، والمعتوه . فلو ترك ابنين بالغين عاقلين فصدقه أحدهما وكذبه الآخر لم يثبت نسبه فإن مات المكذب فورثه المصدق ففي ثبوت نسبه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : قد ثبت نسبه ؛ لأن المصدق صار حائزا للإرث كله .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يثبت ؛ لأن تكذيب شريكه في الميراث مبطل للدعوى فصار كتكذيب الأب في حياته يكون مبطلا لنسبه وإن كان أقر به الورثة بعده .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية