الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر ما وصفنا من شروط العارية وتمامها بالقبض فقد اتفق الفقهاء على أن ما تلف من أجزائها بالاستعمال غير مضمون على المستعير واختلفوا في تلف عينها أن يكون مضمونا على المستعير على خمسة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه أنها مضمونة سواء تلفت بفعل آدمي ، أو بجائحة سماوية وبه قال من الصحابة ابن عباس وعائشة وأبو هريرة - رضي الله عنهم - ومن التابعين عطاء ومن الفقهاء أحمد بن حنبل .

                                                                                                                                            والمذهب الثاني هو مذهب أبي حنيفة أنها غير مضمونة عليه إلا بالتعدي وبه قال الحسن البصري والنخعي ، والثوري ، والأوزاعي .

                                                                                                                                            والمذهب الثالث وهو مذهب مالك إن كان مما يخفى هلاكه ضمن وإن كان مما يظهر هلاكه لم يضمن .

                                                                                                                                            والمذهب الرابع وهو مذهب ربيعة إن تلف بالموت لم يضمن وإن تلف بغيره ضمن .

                                                                                                                                            والمذهب الخامس وهو مذهب جبارة وأبي قتالة وعبيد الله بن حسن العنبري وداود إن شرط ضمانها لزم وإن لم يشترط لم يلزم واستدلوا على سقوط الضمان برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ليس على المستعير غير المغل ضمان وهذا نص برواية عطاء بن أبي رباح عن صفوان بن يعلى عن أبيه قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعا وثلاثين بعيرا فقلت يا رسول الله أعارية مضمونة أم عارية مؤداة [ ص: 119 ] قال بل عارية مؤداة . فقد نفى الضمان عنها فلم يجز أن يتوجه إليها قالوا : ولأنه مستعار تلف بغير تفريط فوجب ألا يضمنوا المستعير قياسا على تلف الأجزاء قالوا : ولأن ما لم تكن أجزاءه مضمونة لم تكن جملته مضمونة كالودائع طردا ، والغصوب عكسا .

                                                                                                                                            ودليلنا رواية قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : على اليد ما أخذت حتى تؤدي ففيه دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه جعل عليها ما أخذت وهذا تضمين .

                                                                                                                                            والثاني : أنه واجب الأداء وذلك بمقتضى عموم الحالين من قيمة وعين . وروى شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن أبيه عن أمية بن صفوان بن أمية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعار منه درعا يوم حنين فقال أغصب يا محمد ؟ فقال : بل عارية مضمونة فوصفها بالضمان بيان لحكمها عند جهله به فإن قيل هو محمول على ضمان الرد كالودائع التي هي مضمونة الرد وليست مضمونة العين قيل إطلاق القول يتناول ضمان الأعيان ولذلك امتنع أن يطلق على الأمانات المؤداة حكم الضمان على أنه قد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : عارية مضمونة مؤداة فكان الأداء محمولا على الرد ، والضمان على التلف . وروى خالد عن حميد عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين - رضي الله عنها - بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - قصعتها التي في بيتها ودفعها بدلا من القصعة المكسورة فلولا أن ضمان العارية واجب لما استجاز أن يدفع مالها بدلا .

                                                                                                                                            ثم الدليل من طريق المعنى أنها عين تفرد باحتباسها لنفسه من غير استحقاق فوجب أن تكون من ضمانه كالقرض ولأنه مقبوض لم يزل ملك صاحبه فوجب أن يكون من ضمان من تعجل الانتفاع به كالإجارة ، والوديعة ؛ لأن تعجيل النفع المودع ، والمؤجر لما يتعجله من استحقاق الأجرة وفي العارية للمستعير ؛ ولأنه مضمون الرد فوجب أن يكون مضمون العين كالغصب ولأن الغاصب لو أعار كان المستعير منه ضامنا ولو أودع كان المستودع منه غير ضامن ؛ لأن المستودع لو أغرم رجع على الغاصب ، والمستعير إذا غرم لم يرجع على الغاصب وكذلك إذا كان مقبوضا من المالك ويتحرر من اعتلاله قياسان : [ ص: 120 ] أحدهما : في كل قبض وقع من غير المالك مضمونا وقع من المالك مضمونا كالغصب طردا ، والوديعة عكسا .

                                                                                                                                            والثاني : أنه مستعار فوجب أن يكون مضمونا على المستعير كالمغصوب قياسا على المستعير من الغاصب . فأما الجواب عن قوله ليس على المستعير غير المغل ضمان فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه محمول على ضمان الأجزاء التالفة بالاستعمال ، وهذا إن كان تخصيصا فلما عارضه من الأخبار المخصصة .

                                                                                                                                            والثاني : أن المغل في هذا الموضع ليس بمأخوذ من الخيانة ، والغلول إنما هو مأخوذ من استغلال الغلة . يقال : قد أغل فهو مغل إذا أخذ الغلة . قال زهير بن أبي سلمى :


                                                                                                                                            فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها قرى بالعراق من قفيز ودرهم



                                                                                                                                            فيكون معنى الخبر لا ضمان على المستعير غير المغل أي غير القابض ؛ لأنه بالقبض يصير مستغلا وهذا صحيح .

                                                                                                                                            فأما الجواب عما روي أنه عليه السلام سئل أعارية مضمونة ، أو عارية مؤداة فقال : بل عارية مؤداة فهو أن معناه أعارية مضمونة بالبدل ، أو مؤداة العين ؟ استعلاما لحكمها هل توجد على طريق البدل ، والمعاوضة ، أو على طريق الرد ، والأداء فأخبر أنها مؤداة العين لا يملكها الآخذ بالبدل فلم يكن فيه تغيير للضمان وأما الجواب عن قياسهم على تلف الأجزاء فهو أن تلف الأجزاء بغير الاستعمال مضمون كالجملة وإنما نلفها بالاستعمال المأذون فيه كالثوب المستعار إذا بلي باللبس لم يضمنه المستعير ، والمعنى فيه أنه أتلفه بإذن مالكه فسقط عنه ضمانه ، والعارية تلفت بغير إذن المالك ورضاه فوجب عليه ضمانها ، ولو أذن له في إتلافها لسقط عنه ضمانها كالأجزاء ولو تلفت الأجزاء بغير اللبس المأذون فيه كالثوب إذا نقل فيه ترابا ، أو شد فيه متاعا ضمن كالعارية فصارت الأجزاء ، والجملة على سواء ففيه جواب عن القياسين معا والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية