الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما إجزاء ما فعلته من العبادات فهي ثلاث عبادات الصلاة والصيام والطواف .

                                                                                                                                            فأما الصلاة فقد اختلف أصحابنا فيها فالذي عليه جمهورهم أنها تصلي في آخر كل وقت من أوقات الصلوات صلاة واحدة ، لجواز أن تكون فيه طاهرا ، ولا يلزمها إعادتها : لأنها إن كانت طاهرا فقد أدتها في وقتها ، وإن كانت حائضا لم يلزمها قضاؤها ، وقال ابن سريج : عليها أن تعيد الظهر والعصر عند غسل المغرب ، وتعيد المغرب وعشاء الآخرة عند غسل الصبح ، قال : لأنه يجوز أن ينقطع دمها قبل المغرب بركعة فتجب عليها صلاة الظهر والعصر ولا يجزئها صلاتها من قبل ، وكذلك قبل الفجر بركعة فيلزمها المغرب وعشاء الآخرة ، وكلا المذهبين عندي مدخول : لأنها بالشك في الحيض ملتزمة لصلاة الوقت مأخوذة بأدائها على اليقين : لأن الفرض الثابت في الذمة لا يسقط بالشك في الأداء ، وهي إذا صلت في أول الوقت ] جاز أن يكون الطهر في أوله وإذا صلت في وسط الوقت ، جاز أن يكون الطهر في أحد طرفيه فيه فلم ينتقض فعل الصلاة الواحدة في شيء من وقتها ، إنها مؤدية لها بيقين ، والصحيح أنها تترك تنزيلين هما أغلظ أحوالها في التزام فرض الوقت ، وصفة أدائها أحد التنزيلين أن يستديم الطهر إلى دخول وقت الصلاة وإمكان أدائها ثم تحيض في باقيه فتلزمها الصلاة في أول وقتها بالوضوء دون الغسل : لأنه آخر طهرها . والتنزيل الثاني : أن يستديم الحيض إلى دخول وقت الصلاة ثم تطهر في باقيه فتلزمها الصلاة في آخر الوقت بالغسل دون الوضوء لأنه أول طهرها . فحصل من هذين التنزيلين أنه يلزمها إذا دخل وقت صلاة الظهر أن تصلي في أول وقتها بالوضوء دون الغسل لجواز أن يكون آخر طهرها ثم تصلي في آخر الوقت صلاة ثانية بالغسل لجواز أن يكون أول طهرها [ ص: 412 ] فإذا دخل وقت العصر صلت في أوله بالوضوء دون الغسل : لجواز أن يكون آخر طهرها ثم أعادت الصلاة بالغسل في آخر وقتها ، وقد بقي منه قدر ما يلزمها به صلاة العصر على ما اختلف فيه قول الشافعي ثم تعيد صلاة الظهر ثالثة في آخر وقت العصر بالغسل لجواز أن تبتدي بالطهر في آخر وقت العصر فيلزمها صلاة الظهر والعصر ، فإن قدمت العصر الثانية على الظهر الثالثة كان غسل العصر لهما وتوضأت للظهر كالمستحاضة ، وإن قدمت ثالثة الظهر على ثانية العصر فإن الغسل لهما وتوضأت للعصر ، فإذا غربت الشمس صلت المغرب بالغسل صلاة واحدة : لأنه ليس لها إلا وقت واحد فإذا دخل وقت عشاء الآخرة صلتها في أول وقتها بالوضوء لجواز أن يكون آخر طهرها ثم أعادتها في آخر وقتها بالغسل لجواز أن يكون آخر طهرها وأعادت معها صلاة المغرب بغسلها العشاء الآخرة ، لجواز أن تبتدئ بالطهر في آخر وقت عشاء الآخر فيلزمها صلاة المغرب وعشاء الآخر ، وتتوضأ للآخرة منهما ، فإذا طلع الفجر صلت الصبح في أول وقتها بالوضوء لجواز أن يكون آخر طهرها ، ثم أعادت في آخر وقتها بالغسل لجواز أن يكون أول طهرها فتصير مصلية للظهر ثلاث مرات وهي أغلظ صلاتها حكما عليها مرة في آخر وقتها بالوضوء ، وثانية في آخر وقتها بالغسل ، وثالثة في آخر وقت العصر بالغسل الواحد لها في العصر ، وتصير مصلية للعصر مرتين مرة في أول وقتها بالوضوء ، وثانية في آخر وقتها بالغسل وتصير مصلية للمغرب مرتين مرة في وقتها بالغسل ، وثانية في آخر وقت عشاء الآخرة بالغسل لها ، والعشاء الآخرة ، وتصير مصلية لعشاء الآخرة ، مرتين مرة بالوضوء وثانية بالغسل ثم كذلك الصبح فتصير مؤدية لفرض الخمس يقينا .

                                                                                                                                            فصل : وأما الصيام فإذا أهل شهر رمضان صامت جميعه لجواز أن تكون طاهرة قال أصحابنا : فإذا صامته اعتدت منه بصيام نصفه خمسة عشر يوما ، وأعادت صوم خمسة عشر يوما في شهر آخر : لأن أسوأ أحوالها أن تكون في نصف شهرها حائضا وفي نصفه طاهرا فكذلك اعتدت من فرضها بصوم خمسة عشر يوما لأنه [ أقل طهرها فيه ، وأعادت صوم خمسة عشر يوما لأنه ] أكثر حيضها فيه وليس يتعين لها ما تعتد بصومه من رمضان : لأنه يجوز أن يكون من أوله ، ويجوز أن يكون من وسطه ، ويجوز أن يكون في آخره ، ولا يكون جهلها بتعيينه مؤثرا في صحة الاحتساب به ، فهذا ما أطلقه أصحابنا من احتسابها خمسة عشر يوما منه . قلت أنا : وهذا الإطلاق عندي ليس بصحيح : لأن لها حالين حال يعلم أن حيضها قد كان يبتدئ بها قبل الفجر فيكون الجواب على ما مضى من الاحتساب بخمسة عشر يوما من الشهر الكامل لما ذكره من التعليل ، وحال يجهل الوقت الذي كان يبتدئ فيه حيضها ولا [ ص: 413 ] يعلم هل كان قبل الفجر أو بعده فهذه لا تحتسب من صوم شهرها الكامل إلا بأربعة عشر يوما : لأنه قد يجوز أن يبتدئ بها الحيض في تضاعيف اليوم من نصفه ، ويستديم خمسة عشر يوما فيكون آخره نصف السادس عشر فيبطل صوم اليوم الأول لوجود الحيض فيه ، وصوم أربعة عشر يوما بعده كاملة ، وصوم اليوم السادس عشر باطل : لورود الحيض فيه ، ويصح لها صوم ما سواه وهو أربعة عشر يوما إن كان الشهر كاملا ، وثلاثة عشر يوما إن كان الشهر ناقصا ، ويلزمها قضاء ستة عشر يوما على ما وصفنا ، فإذا صامت شهرا للقضاء نظر ، فإن كان كاملا احتسب منه بأربعة عشر يوما ، وبقي عليها قضاء يومين فتقضيهما على ما سنذكره فإن كان ناقصا احتسبت منه بثلاثة عشر يوما ، وبقي عليها قضاء ثلاثة أيام ، وأما صيام الأيام المفردة ، فإن كان عليها صوم يوم واحد . قال أصحابنا صامت يوما واحدا وأمسكت أربعة عشر يوما ثم صامت يوما ثانيا ، ليكون أحد اليومين مصادف الطهر بيقين : لأنها إن كانت في اليوم الأول حائضا ، فأسوأ أحوالها أن يكون ذلك اليوم أول حيضها ، وتستديم خمسة عشر يوما فيكون اليوم الآخر الذي صامته بعد إمساك أربعة عشر يوما طهرا بيقين ، وإن كانت في اليوم الأول طاهرا فقد أجزأها صومه ، ولا يضرها صوم اليوم الآخر وإن صادف حيضا قالوا : فلو كان عليها صوم يومين صامتهما ثم أمسكت ثلاثة عشر يوما وهو عدد يكمل مع أيام الصوم خمسة عشر يوما ، ثم تصوم بعد ذلك يومين آخرين ليكون أحد الطوافين على ما تقدم ومن التعليل مصادفا لطهر بيقين فلو كان عليها صوم ثلاثة أيام [ ثم أمسكت عن الصيام اثني عشر يوما ثم ] صامت ثلاثة أيام بعدها فيكون أحد الطوافين مصادفا لطهر بيقين ، فلو كان عليها صوم أربعة أيام صامتها ، وأمسكت أحد عشر يوما ، ثم صامت أربعة أيام أخر ، ولو كان عليها صوم خمسة أيام صامتها ، وأمسكت عشرة أيام ، ثم صامت خمسة أيام وأمسكت عشرة أيام ، ثم صامت خمسة أيام أخر ، وهكذا يكون فيما زاد من الأيام على هذا العدد تصومها ، وتمسك ما بعدها من الأيام ما يستكمل معها تمام خمسة عشر يوما ، ثم تعيد صيام تلك الأيام من بعده ، وهذا الإطلاق من أصحابنا ليس بصحيح أيضا ، وإنما يصح ممن علمت أن حيضها يبتدئ بها قبل الفجر ، فأما من لم تعلم ذاك من حالها وجوزت أن يكون ابتداء حيضها بعد الفجر فلا يجزئها في القضاء ما وصفوه : لأنها إذا صامت لقضاء يوم يومين بينهما أربعة عشر يوما جاز أن يكون ابتداء حيضها من نصف اليوم الأول الذي صامته ، وآخره نصف اليوم [ الأخير ] الذي صامته تكملة خمسة عشر يوما : فلا يجزئها صوم واحد من اليومين ، لجواز أن يكون الحيض موجودا فيهما ، فإذا كان كذلك فالوجه الذي يسلم به من هذا الاحتمال ، ويؤدي فرض صومها بيقين أن تزيد في صوم كل واحد من الطرفين على [ ص: 414 ] العدد الذي يزيد قضاؤه من الأيام صوم يوم واحد زائدا على ذلك العدد لتجرية ما وصفنا من الاحتمال ، فإذا كان عليها صوم يوم واحد صامت يومين ، وأمسكت ثلاثة عشر يوما ، ثم صامت يومين آخرين فيصح لها من هذه الأربعة أيام يوم واحد بيقين : لأنه إن كان حيضها في نصف اليوم الأول من الصيام الأول ، كان آخره نصف اليوم الأول من الصيام الآخر أجزأها صوم ما بعده من اليوم الثاني : لمصادفته طهرا أو إن كان أول حيضها نصف اليوم الثاني من الصيام الأول ، كان آخره نصف اليوم الثاني من الصيام الثاني ، فسلم لها نصف اليوم الأول : لمصادفته طهرا ، فعلى هذا لو كان عليها صوم يومين صامت ثلاثة أيام ، وأمسكت اثني عشر يوما ، ثم صامت ثلاثة أيام فإن كان أول حيضها نصف اليوم الأول من الصيام فآخره نصف اليوم الأول من الصيام الآخر فأجزأها اليومان بعده الثاني والثالث وإن كان أول حيضها نصف اليوم الثاني من الصيام الأول فآخره نصف اليوم الثاني من الصيام الأخير فأجزأها صوم اليوم الأول ، لتقدمه على الحيض وصوم اليوم الأول من الصيام الأول : لتقدمه على الحيض ، وصوم اليوم الثالث من الصيام الأخير لتأخره عن الحيض ، وإن كان أول حيضها نصف اليوم الثالث من الصيام الأول فآخره نصف اليوم الثالث من الصيام الأخير ، فأجزأها صوم اليوم الأول والثاني من الصيام الأول ، فلو كان عليها صوم ثلاثة أيام صامت أربعة أيام [ وأمسكت أحد عشر يوما ثم صامت أربعة أيام ] ليسلم لها صوم ثلاثة أيام في أحد الطرفين ، ولو كان عليها صوم أربعة أيام صامت خمسة أيام ، وأمسكت عشرة أيام ثم صامت خمسة أيام ، فيصح لها صوم أربعة أيام من عشرة أيام ، ولو كان عليها صوم خمسة أيام صامت ستة أيام ، وأمسكت تسعة أيام ، ثم صامت ستة أيام ، فيصح لها صوم خمسة أيام من اثني عشر يوما ، ثم على قياس هذا يكون الحكم في صوم ما زاد على هذا العدد بأن تصومه مع يوم زائد ثم تمسك تمام خمسة عشر يوما ثم تعيد صوم تلك الأيام مع اليوم الزائد فيسلم لها صوم تلك الأيام والله أعلم .

                                                                                                                                            فصل : فأما الطواف إذا كان واجبا عليها فأرادت فعليها أن تطوف ثم تمسك تمام خمسة عشر يوما مع أول ساعة بدأت فيها بالطواف ثم تطوف عقيب ذلك طوافا ثانيا فيصح لها أحد الطوافين . مثال : أن تكون قد بدأت بالطواف مع زوال الشمس فتمسك إلى زوال الشمس من اليوم الخامس عشر ثم تطوف ثانية عقيب الزوال سواء علمت أن حيضها يبتدئ قبل الفجر أو لم تعلم بخلاف الصيام : لأن صوم اليوم مع وجود الحيض في بعضه لا يصح ، والطواف في يوم قد كانت حائضا في بعضه يصح ، فإذا فعلت ما وصفنا كان أحد الطوافين مصادفا لطهر بيقين ، لأنه إن كان الأول في أول حيضها كان الثاني في أول طهرها وإن كان [ ص: 415 ] الأول في وسط الحيض كان الثاني في وسط الطهر ، فإن كان الأول في الطهر فهو المجزئ ، ولا تضر مصادفة الثاني للحيض ، فأما إن أرادت طوافا غير واجب ، فذلك ضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تبتدئ به تطوعا من غير سبب فلا يجوز على هذه الحال من الإشكال ، كما لا يجوز أن تتطوع بالصلاة وإن كان مسنونا له سبب راتب فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يلزمه في تركه جبران دم كطواف الوداع في أحد القولين ، فلها أن تطوفه على ما وصفنا ولا تمنع منه ، لما يتعلق بذمتها من دم الجبران .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يلزم في تركه دم ، كطواف القدوم فهل تمنع منه أم لا ؟ على وجهين كالمسنونات من الصلوات الموظفات هذا حكم الناسية لقدر حيضها ووقته حتى خرج بناء الاستيفاء إلى الإطالة التي أنا لها كاره لكن ما اقتضت إبانة المشروح كان إغفاله تقصيرا وتركه عجزا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية