الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وغيرها من الآي التي تضمنها ذكر الصلاة ، فقد اختلف أصحابنا في جملة العلماء : هل ذلك من المجمل الذي لا يعقل معناه إلا بالبيان ؟ أو هو ظاهر معقول المعنى ؟ قيل : ورود البيان على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : من المجمل المفتقر إلى البيان في معرفة المراد به ، لأن مجرد اللفظ لا يدل عليه ، والبيان لا يستغنى عنه

                                                                                                                                            والوجه الثاني : إن لهذا اللفظ ظاهرا يعقل معناه ما لم يرد البيان بالعدول عنه ، أو باستعمال شروط فيه : لأن القرآن نزل بلسان عربي تحدى الله به العرب ، فلو كان فيه ما ليس بمعقول المعنى لأنكروه ، ثم اختلفوا في الاسم : هل جاء به الشرع كما جاء ببيان الحكم أو كان معروفا عند أهل اللسان ، والشرع المختص ببيان الأحكام على ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم أحدث الأسماء شرعا ، كما بين الأحكام شرعا ، لأنه لما جاز أن يرد الشرع بما لم يكن عبادة من قبل افتقر ما ورد به الشرع إلى أسماء مستحدثة بالشرع ، وهذا قول من زعم أن اسم الصلاة مجمل ، فجعله مستحدثا بالشرع ، لأن العرب لم تكن تعرفه على هذه الصفة

                                                                                                                                            والمذهب الثاني : أن الشرع مختص بورود الأحكام ، فأما الأسماء فمأخوذة من أهل اللغة واللسان : لأن الأسماء لو ردت شرعا لصاروا مخاطبين بما ليس من لغتهم ، ولخرج [ ص: 10 ] القرآن كله من أن يكون بلسان عربي مبين ، وقد قال تعالى : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية [ الأنفال : 35 ] . فأخبر أنهم كانوا يصلون ويعتقدونها عبادة وإن كانت مكاء وتصدية

                                                                                                                                            والمكاء : الصفير ، وفي التصدية تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : التصفيق ، وهو قول ابن عمر ، وابن عباس

                                                                                                                                            والثاني : الصد عن البيت ، وهو قول سعيد بن جبير ، وابن زيد ، وهذا مذهب من زعم أن اسم الصلاة ظاهر وليس بمجمل

                                                                                                                                            المذهب الثالث : وهو مذهب جمهور أهل العلم وكافة أهل اللغة ، أنها أسماء قد كان لها في اللسان حقيقة ، ومجاز فكان حقيقتها ما نقلها الشرع عنه ، ومجازها ما قررها الشرع عليه لوجود معنى من معاني الحقيقة فيها ، فعلى هذا اختلفوا في المعنى الذي لأجله سميت الصلاة الشرعية صلاة على ستة أقاويل :

                                                                                                                                            أحدها : وهو أشهرها أنها سميت صلاة لما يتضمنها من الدعاء ، والذي هو مسمى في اللغة صلاة ، قال الله تعالى : وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم [ التوبة : 103 ] . أي ادع لهم ، وقال الأعشى :

                                                                                                                                            تقول بنتي وقد قربت مرتجلا يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا     عليك مثل الذي صليت فاغتمضي
                                                                                                                                            يوما فإن لجنب المرء مضطجعا

                                                                                                                                            والقول الثاني : أنها سميت صلاة لما يعود على فاعلها من البركة في دينه ودنياه ، والبركة تسمى صلاة . قال الشاعر :


                                                                                                                                            وصهباء طاف يهوديها     وأبرزها وعليها ختم
                                                                                                                                            وقابلها الريح في دنها     وصلى على دنها وارتسم

                                                                                                                                            يعني : أنه دعا لها بالبركة

                                                                                                                                            والقول الثالث : أنها سميت صلاة لأنها تقضي إلى المغفرة التي هي مقصود الصلاة ، ومقصود الشيء أحق بإطلاق اسمه عليه مما ليس مقصودا فيه ، والمغفرة والاستغفار يسمى صلاة . قال الله تعالى : أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة [ البقرة : 157 ] . يريد بصلوات الله : المغفرة ، لأنه ذكر بعدها الرحمة . قال الشاعر :


                                                                                                                                            صلى على يحيى وأشياعه     رب كريم وشفيع مطاع

                                                                                                                                            [ ص: 11 ] ولذلك سميت الصلاة استغفارا . قال الله تعالى : والمستغفرين بالأسحار يعني : المصلين

                                                                                                                                            والقول الرابع : أنها سميت صلاة ، لأن المصلي إذا قام بين يدي الله تعالى في الصلاة ، فأصابه من خشيته ومراقبته ما يلين ويستقيم اعوجاجه ، مأخوذ من التصلية ، يقال : صليت العود . إذا لينته بالنار فيسهل تقويمه من الاعوجاج :

                                                                                                                                            قال الشاعر :


                                                                                                                                            ولكنما صلوا عصا خيزرانة     إذا مسها عض الثقاف تلين

                                                                                                                                            والقول الخامس : أنها سميت صلاة ، لأن المصلي يتبع فعل من تقدمه ، فجبريل أول من تقدم بفعلها ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم تابعا له مصليا ، ثم المسلمون بعده

                                                                                                                                            قال الشاعر :


                                                                                                                                            أنت المصلي وأبوك السابق

                                                                                                                                            القول السادس : أنها سميت صلاة وفاعلها مصليا ، لأن رأس المأموم عند صلوى إمامه ، والصلوان عظمان عن يمين الذنب ويساره في موضع الردف . قال الشاعر :


                                                                                                                                            تركت الرمح يعمل في صلاه     ويكبوا للترائب والجبين

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية