الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما الفصل الثالث وهو كيفية النية : فهو بالخيار بين أن ينوي أحد ثلاثة أشياء :

                                                                                                                                            إما رفع الحدث أو استباحة الصلاة ، أو الطهارة لفعل ما لا يصح بغير طهارة .

                                                                                                                                            فأما القسم الأول : وهو أن ينوي رفع الحدث فله ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون متوضئا .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون مغتسلا .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكون متيمما .

                                                                                                                                            فإن كان متوضئا أجزأه أن ينوي رفع الحدث سواء عين الحدث في نيته أو لم يعينه ، نوى رفع جميعها أو رفع أحدها ، وإنما أجزأه أن ينوي رفع الحدث ، لأن الحدث هو المانع من الصلاة فإذا نوى رفعه زال ما كان مانعا من الصلاة وأجزأه .

                                                                                                                                            فلو كان به حدثان حدث من بول وحدث من نوم فنوى رفع أحدهما ارتفعا معا لأنه لا يصح بقاء أحدهما مع ارتفاع الآخر ، فلو نوى رفع أحدهما على ألا يرفع الآخر ففي صحة وضوئه وارتفاع حدثه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن وضوءه باطل وحدثه باق ، لأنه لما شرط في نيته بقاء أحد الحدثين كان ذلك قادحا ففسدت النية .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن وضوءه صحيح وحدثه مرتفع ، لأنه لما نوى رفع أحد الحدثين كان ذلك أقوى حكما فبطل الشرط ، فلو كان به حدث من بول لا غير فنوى رفع الحدث من نوم ولم يكن قد أحدث عن نوم أجزأه ؛ لأن تغيير النية عن الحدث لا يلزم ، والنوم حدوث فصار ناويا رفع الحدث .

                                                                                                                                            وإن كان مغتسلا فيحتاج أن ينوي رفع الحدث الأكبر فلو نوى رفع الحدث ولم يذكر في نيته الأكبر أجزأه ، لأن نيته تنصرف إلى حدثه الذي هو فيه ، فلو كان به حدثان أصغر وأكبر فاغتسل فنوى رفع الحدث فقد اختلف أصحابنا في الحدث الأصغر هل يسقط حكمه بالحدث الأكبر ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : قد سقط حكمه ، فعلى هذا يجزئه غسله عن حدثه الأكبر .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه لا يسقط حدثه الأصغر ، فعلى هذا لا يجزئه غسله من واحد من الحدثين لامتيازهما ، وإن أطلق النية يحتمل التشريك بينهما ، فلو عين النية فنوى غسل [ ص: 95 ] الجنابة أو كانت امرأة فنوت غسل الحيض أجزأهما ذلك ، فلو كان جنبا فنوى رفع الحدث الأصغر لم يجزه ، وإن كان محدثا فنوى رفع الحدث الأكبر أجزأه ، لأنه يصح أن يرفع الأدنى بالأعلى ، ولا يصح أن يرفع الأعلى بالأدنى .

                                                                                                                                            فإن كان متيمما لم يجز أن ينوي رفع الحدث ، لأن حدثه لا يرتفع بالتيمم وهكذا المستحاضة ، ومن به سلس البول لا يجوز لهم أن ينووا رفع الحدث لأن حدثهم لا يرتفع .

                                                                                                                                            وفيه وجه آخر لبعض أصحابنا : أنه يجوز للمتيمم والمستحاضة ، ومن به سلس البول أن ينووا رفع الحدث ، لأن المقصود برفع الحدث استباحة الصلاة ، وهؤلاء قد يستبيحون الصلاة بطهارتهم .

                                                                                                                                            فأما القسم الثاني : وهو أن ينوي استباحة الصلاة فيجزئه ، لأن الحدث مانع من استباحتها فصار استباحتها رفعا للحدث ، وسواء كان متوضئا أو مغتسلا فليس عليه تعيين الصلاة التي يستبيح فعلها ، وسواء نوى استباحة الصلوات كلها أو نوى استباحة صلاة بعينها سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا ؛ لأن النفل لا يصح فعله بالحدث كالفرض .

                                                                                                                                            فأما المتيمم فقد اختلف أصحابنا : هل يلزمه في نيته تعيين الصلاة التي يريد أن يستبيحها بتيممه أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يلزمه ذلك كالوضوء والغسل .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يلزمه في النية أن يعين الصلاة التي يتيمم لها ؛ لأن التيمم لما لم يرفع الحدث واختص بأداء فرض واحد من جميع الصلوات المفروضات صار شرطا فيها فيلزمه تعيينها إلا أن يريد التيمم لنافلة فيجوز ألا ينوي تعيين النية لها لأن النوافل لا تتعين . فلو توضأ رجل لصلاة الظهر جاز أن يصليها وما شاء من الصلوات المفروضات والمسنونات ما لم يحدث ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر حين أذكره عام الفتح أنه صلى الخمس بوضوء واحد فقال عليه السلام : عمدا فعلت ذلك يا عمر . فلو توضأ لصلاة الظهر على ألا يصلي به ما سواها من الصلاة ، ففيه ثلاثة أوجه لأصحابنا :

                                                                                                                                            أحدها : أن وضوءه صحيح ويصلي به ما شاء من الصلوات ؛ لأن الحدث إذا ارتفع لصلاة ارتفع لجميع الصلوات .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن وضوءه باطل وحدثه باق ؛ لأن حدثه إذا لم يرتفع لجميع الصلوات لم يرتفع لتلك الصلاة . [ ص: 96 ] والوجه الثالث : أن وضوءه يصح وحدثه يرتفع لتلك الصلاة وحدها دون غيرها ؛ لأن الطهارة قد تصح أن تكون لصلاة بعينها دون غيرها كالمستحاضة والمتيمم والماسح على خفيه .

                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : وهو أن ينوي الطهارة لفعل ما لا يصح بغير طهارة ، فجملة أعمال التي يتطهر لها أنها على ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : ما يجب فيه طهارة ولا يصح فعله بغير طهارة كالطواف ، وصلاة الجنازة ، وحمل المصحف وسجود السهو والشكر والتلاوة .

                                                                                                                                            فمن توضأ أو اغتسل ينوي فعل شيء من هذا كله ارتفع حدثه وصح وضوءه وغسله ، لأن الحدث لما كان مانعا من هذا كله كالصلاة صار المتوضئ له كالمتوضئ لفعل الصلاة .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : ما يصح فعله بغير طهارة وليس بمندوب فيه إلى الطهارة كالصيام وعقود المناكح والبيعات ولقاء السلطان والخروج إلى سفر ، فهذه كلها أعمال تصح بغير طهارة وليس الإنسان مندوبا فيها إلى الطهارة ، فإذا توضأ أو اغتسل لشيء من هذا كله فوضوؤه وغسله باطلان لا يرتفع بهما حدث ولا يستباح بهما صلاة ؛ لأن الحدث لما لم يمنع من هذه الأعمال لم يكن للطهارة لها تأثير في رفع الحدث ، وهكذا لو توضأ للتبرد والتنظف فهو على حدثه ووضوء غير مجزئ ، ولكن لو توضأ لرفع الحدث والتبرد والتنظف . قال الشافعي : أجزأه لأن التبرد والتنظف قد يحصل له وإن لم ينوه .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : ما يصح فعله بغير طهارة لكنه مندوب في فعله إلى الطهارة كالمحدث إذا توضأ لقراءة القرآن طاهرا أو لدخول المسجد والمقام فيه أو لدراسة العلم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لأن يؤذن أو يسعى بين الصفا والمروة أو لأن يقف بعرفة أو لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم . ففي صحة وضوئه وارتفاع حدثه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن وضوءه صحيح وحدثه مرتفع ؛ لأنه وضوء مندوب إليه ، فأشبه وضوءه لما لا يجوز بغير وضوء ، واستشهادا من قول الشافعي : ولو توضأ لنافلة أو قراءة مصحف فجمع بين الوضوء للقراءة وبين الوضوء للنافلة .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو أصح ، أن وضوءه باطل وحدثه باق ؛ لأنه توضأ لما يصح بغير وضوء فأشبه وضوءه لما لم يندب فيه إلى الوضوء ، وحمل قائل هذا الوجه قول الشافعي ولو توضأ لنافلة أو لقراءة مصحف أنه أراد القارئ في المصحف إذا كان حاملا له .

                                                                                                                                            ومن توضأ لحمل مصحف ارتفع حدثه لأن حمل المصحف لا يجوز لمحدث ( وعلى هذين الوجهين يكون الجواب ) فيمن توضأ ينوي تجديد الطهارة لأن تجديد الطهارة مندوب [ ص: 97 ] إليه فيكون ( في صحة ) الطهارة وجهان : فأما من توضأ ينوي الطهارة وحدها أجزأه وضوؤه وارتفع حدثه ؛ لأن الطهارة لرفع الحدث ، ولكن لو نوى الوضوء وحده فالوضوء قد يكون مندوبا إليه وقد يكون واجبا فيكون في ارتفاع حدثه وجهان كمن توضأ لمندوب إليه .

                                                                                                                                            فأما الجنب : إذا نوى الغسل وحده لم يجز لأن الغسل قد يكون تارة عبادة وتارة غير عبادة ( فصار ناوي الطهارة يجزئه وناوي الغسل لا يجزئه ) وفي ناوي الوضوء وجهان :

                                                                                                                                            فأما الجنب إذا نوى بغسله قراءة القرآن أو المقام في المسجد أجزأه ؛ لأن الجنب لا يجوز أن يقرأ ولا أن يقيم في المسجد ، ولكن لو نوى أن يمر في المسجد عابر سبيل كان في صحة غسله وجهان ؛ لأن غسله للمرور في المسجد مندوب إليه وليس بواجب ، وهكذا لو نوى غسل الجمعة والعيدين كان على هذين الوجهين ؛ لأنه غسل مندوب إليه فلو توضأ محدث لصلاة الصبح فصلاها ثم جدد وضوءه للظهر وصلاها ثم أحدث وقت العصر فتوضأ أو صلاها ثم تيقن أنه ترك غسل وجهه في إحدى الطهارات الثلاث نظر ، فإن تيقن تركه من طهارة الصبح أعادها ولم يعد العصر ، وفي إعادة الظهر وجهان ؛ لأنه توضأ لها تجديدا لا فرضا ، وإن تيقن تركه من طهارة الظهر لم يلزمه إعادتها ولا إعادة الصبح قبلها ولا إعادة العصر بعدها ، وكأنه لم يجدد طهارته للظهر ، وإن تيقن أنه تركه من طهارة العصر أعادها وحدها ، وإن شك ولم يعلم من أي طهارة تركها أعاد الصبح والعصر لجواز أنه تركه من أحدهما وفي وجوب إعادة الظهر وجهان لأنه توضأ لها تجديدا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية