الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " فإذا طلعت الشمس قبل أن يصلي ركعة منها فقد خرج وقتها ، فاعتمد في ذلك على إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم ولما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك "

                                                                                                                                            قال الماوردي : وقد مضى الكلام في بيان مواقيت الصلاة الخمس في أوائلها وأواخرها وما يتعقبها أوقات الجواز منها ، وهي أوقات المرفهين ، وإذا كان كذلك مقدرا فقد اختلف الناس هل تجب الصلاة بأول وقتها أو بآخره ؟ فمذهب الشافعي ، ومالك ، وأكثر الفقهاء أنها تجب بأول وقت ورفه بتأخيرها إلى آخر الوقت ، وأما أبو حنيفة فقد اختلف أصحابه في مذهبه ، فحكى عنه محمد بن شجاع البلخي مثل مذهبنا ، وحكى أبو الحسين الكرخي أن جميع وقت الصلاة وقت لأدائها ، ويتعين الوجوب بفعلها أو بضيق وقتها ، [ ص: 31 ] وحكى جمهور أصحابه أنها تجب بآخر الوقت ، واختلف أصحابه على هذا المذهب . فحكى بعضهم عنه أنها تكون نفلا تمنع من وجوب الفرض ، وحكى بعضهم : أنها تكون موقوفة مراعاة ، فإن بقي على صفة المكلفين إلى آخر الوقت تيقنا أنها كانت فرضا وإن زال عن صفة التكليف تبينا أنها كانت نفلا ، وهكذا قال في تعجيل الزكاة ، واختلف أصحابنا في تأخيرها عن أول الوقت إلى آخره ، هل يجب أن يكون مشروطا بالعزم على فعلها فيه ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يلزم اشتراط العزم فيه ولا يقضي بتأخيرها من غير عزم

                                                                                                                                            والثاني : يلزم اشتراط العزم في تأخيرها لإباحة التأخير على صفة الأول قبل العزم ، فإن أخرها من غير عزم على فعلها في آخر الوقت كان عاصيا ، وإن كان لها مؤديا ، وقد اختلف أصحابه إذا بقي منه قدر الإحرام إلا زفر بن الهذيل ، فإنه قال : تجب إذا بقي من الوقت قدر تلك الصلاة ، فإن صح في أول الوقت استدلالا بأن ما وجب في زمان لم يجز تأخيره عن ذلك الزمان ، كصيام رمضان ، وما جاز تأخيره عن زمان لم يجب في ذلك الزمان ، كقضاء رمضان ، فلما جاز تأخير الصلاة عن أول الوقت إلى آخره دل على أنها لا تجب بأول الوقت وتجب بآخره ، ولأن وقت الصلاة كالحول في الزكاة ، لأنه يجوز تقديم الصلاة في أول الوقت وتأخيرها إلى آخره ، كما يجوز تعجيل الزكاة في أول الحول وتأخيرها إلى آخره ، ثم ثبت أن الزكاة تجب بآخر الحول لا بأوله ، وكذلك الصلاة يقتضي أن تجب بآخر الوقت لا بأوله

                                                                                                                                            ودليلنا قول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم حين بين له في اليومين أول الوقت وآخره بين هذين وقت - يعني - وقت الوجوب والأداء ، لأنه قصد بيان الأمرين ، ولأنها من عبادات الأبدان المحضة ، فوجب أن يكون وقت فعلها المتبوع وقتا لها في الوجوب ، كالصيام ، ولأن كل وقت كان المصلي فيه مؤديا كان الفرض به واجبا كآخر الوقت ولا يدخل عليه الجمع ، لأنه يقوم مقام الأداء ، وليس بأداء على الإطلاق ، ولأن ما يستفاد بالوقت من أحكام الصلاة شيئان ، الوجوب والأداء فلما كان آخر الوقت يتعلق به الحكمان معا ، فأول الوقت أولى أن يتعلق به الحكمان معا ، لأن أوله متبوع ، وآخره تابع ، ولأن الوجوب أصل ، والأداء فرع ، فلما كان أول الوقت يتعلق به الأداء وهو فرع لم يجز أن ينتفي عنه الوجوب الذي هو أصل

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلال الأول بجواز التأخير فهو : إن ترك الصلاة في أول الوقت إنما هو وقت إلى بدل ، وهو فعلها في ثاني وقت ، وترك الشيء إلى بدل لا يدل على أنه ليس بواجب ، كالكفارة الواجبة فيها أحد الثلاثة ، ثم لم يدل ترك أحد الثلاثة إلى غيره على أنه ليس بواجب ، كذلك الصلاة . على أن من أصحابنا من قال الواجب على ضربين

                                                                                                                                            موسع الوقت ، ومضيق الوقت ، فما ضيق وقته فحده ما ذكروه ، وما وسع وقته فليس حده [ ص: 32 ] ما ذكروه [ والصلاة وسع وقتها ، ولم يضيق ، وأما ما ذكروه ، ] من الجمع بين وقت الصلاة ، وحول الزكاة فجمع فاسد ، لأن الزكاة تجب بانقضاء الحول ، والصلاة تجب قبل خروج الوقت ، فكيف يجوز أن يجمع بينهما في الوجوب

                                                                                                                                            فصل . فإن ثبت أن وجوب الصلاة يكون بأول الوقت ، فاستقرار فرضها يكون بإمكان الأداء ، وهو : أن يمضي عليه بعد زوال الشمس قدر أربع ركعات ، وعند غروب الشمس ثلاث ركعات ، وبعد طلوع الفجر قدر ركعتين ، فيستقر حينئذ فرضها بهذا الزمان الذي أمكن فيه أداؤها بعد تقدم وجوبها بأول الوقت حتى لو مات من بعد هذا الزمان كان ميتا بعد استقرار الفرض ، ولو مات قبله وبعد دخول الوقت سقط عنه الفرض ، وقال أبو العباس : تجب الصلاة بأول الوقت ، ويستقر فرضها بآخره . قال : لأن فرضها لو استقر في أول الوقت بإمكان الأداء لم يجز أن يقصرها إذا سافر في آخر وقتها ، لاستقرار فرضها فلما جاز له القصر إذا سافر في آخر الوقت دل على أن الفرض لم يكن قد استقر وإنه بآخر الوقت يستيقن ، قال أبو يحيى البخلي : ـ من أصحابنا - أن الصلاة تجب بأول الوقت وجوبا مستقرا وليس إمكان الأداء فيها معتبرا ، وكلا المذهبين فاسد ، واعتبار الإمكان في استقرار الفرض أولى وإن كان الوقت موسعا ، لأن حقوق الأموال لما كان الإمكان شرطا في استقرار فرضها كانت حقوق الأبدان أولى ، وليس جواز القصر في آخر الوقت دليلا على أن الفرض لم يكن مستقرا ، لأن القصر من صفات الأداء ، فلم يجز أن يكون سمة في استقرار الفرض ، كما أن الصحة ، والمرض لما كانا من صفات الأداء لم يجعلا سمة في استقرار الفرض ، والله أعلم

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية