الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " فإن عالت الفريضة فالسدس للجد والعول يدخل عليه منه ما يدخل على غيره " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وأما العول فهو زيادة الفروض في التركة حتى تعجز التركة عن جميعها فيدخل النقص على الفروض بالحصص ، ولا يخص به بعض ذوي الفروض من دون بعض ، فهذا هو العول ، وبه قال جمهور الصحابة ، وأول من حكم به عن رأي جميعهم عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - وأشار به عليه علي والعباس - رضي الله عنهما - ثم اتفقوا جميعا عليه إلا ابن عباس وحده فإنه خالفهم في العول ، وأظهر خلافه بعد موت عمر ، وهي المسألة الرابعة التي تفرد ابن عباس فيها بخلاف الصحابة ، وقال : أكمل فرض من نقله الله تعالى من فرض إلى فرض ، كالزوج والزوجة والأم ، وأدخل النقص على من نقله الله من فرض إلى غير فرض كالبنات والأخوات لانتقالهن مع إخوتهن من فرض إلى غير فرض .

                                                                                                                                            وروى عطاء بن أبي رباح قال : سمعت ابن عباس يقول : أترون الذي أحصى رمل عالج عددا لم يحص في مال قسمه نصفا ونصفا وثلثا ، فبهذان النصفان قد ذهبنا بالمال فأين موضع الثلث ؟ قال عطاء : فقلت لابن عباس يا أبا عباس ، إن هذا لا يغني عنك ولا عني شيئا لو مت أو مت قسم ميراثنا على ما قاله اليوم من خلاف رأيك ، قال فقال إن شاءوا فلندع أبناءنا وأبناءهم ونساءنا ونساءهم وأنفسنا وأنفسهم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ، ما جعل الله في مال نصفا ونصفا وثلثا .

                                                                                                                                            [ ص: 130 ] وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال أتيت ابن عباس أنا وزفر بن أوس وما كنت ألقى رجلا في العرب يحيك في صدري أحب إلي من ذلك الرجل قال : فقال له زفر : يا أبا عباس من أول من أعال الفرائض ؟ فقال : عمر بن الخطاب ، وايم الله لو قدم من قدم الله ما عالت فريضة ، قال فقال له يا أبا عباس وأيها التي قدمها الله وأيها التي أخر ؟ فقال كل فريضة لم تزل عن فريضة إلا إلى فريضة هي التي قدمها الله ، وكل فريضتين عالت عن فريضتها لم يكن لها إلا ما بقي فهي التي أخر ، فأما التي قدم الله فالزوج فله النصف ، فإذا دخل عليه من يزيله فله الربع لا يزيله عنه شيء ، والمرأة لها الربع ، فإذا زالت عنه صار لها الثمن لا يزيلها عنه شيء ، والأم لها الثلث ، فإذا زالت عنه صار لها السدس لا يزيلها عنه شيء ، فهذه الفرائض التي قدم الله ، والتي أخر فريضة البنات والأخوات النصف والثلثان ، فإذا أزالتهما الفرائض عن ذلك لم يكن لهم إلا ما يبقى ، فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخره بدئ بما قدمه الله ولم تعل فريضة ، فقال له البصري : فما منعك أن تسير بهذا الرأي على عمر ؟ قال : هبته ، وكان امرأ ورعا . فقال الزهري : والله لولا أنه تقدم ابن عباس إمام عدل فأمضى أمرا فمضى وكان امرأ ورعا لما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم ، فهذا مذهب ابن عباس في إسقاط العول واحتجاجه فيه فلم يتابعه على هذا القول إلا محمد ابن الحنفية ومحمد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام .

                                                                                                                                            ومن الفقهاء داود بن علي دليل ذلك مع ما أشار إليه ابن عباس من الاحتجاج أنه ليس البنات والأخوات بأقوى من البنين والإخوة ، فلما أخذ البنون والإخوة ما بقي بعد ذوي الفروض ، وإن قيل كان أولى أن يأخذه البنات والأخوات .

                                                                                                                                            والدليل على استعمال العول وإدخال النقص على الجماعة بقدر فروضهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ألحقوا الفرائض بأهلها ، وكان الأمر لجميعهم على سواء فامتنع أن يختص بعضهم بالنقص دون بعض ، ولأنه لما كان قصور التركة عن الدين وضيق الثلث عن الوصية توجب توزيع ذلك بالحصص وإدخال النقص على الجميع بالقسط ولا يخص به البعض مع تساوي الكل وجب أن يكون فرض التركة بمثابة في إدخال النقص على جميعها بالحصص ، ولأن لو جاز نقص بعضهم توفيرا على الباقين لكان نقص الزوج والزوجة لإدلائهما بسبب أولى من نقص البنات والأخوات مع إدلائهما بنسب ، ولأن الزوج والزوجة والأم إن أعطوا مع كثرة الفروض وضيق التركة أعلى الفرضين كملا ، وإدخال النقص على غيرهم ظلم لمن شاركهم وجعلوا أعلى في الحالة الأدنى ، وإن أعطوا أقل الفرضين فقد حجبوا بغير من حجبهم الله تعالى به ، وكلا الأمرين فاسد ، وإذا فسد الأمران وجب العول .

                                                                                                                                            فأما استدلاله بأن ضعف البنات والأخوات يمنع من أن يفضلوا على البنين والإخوة ، فالجواب عنه : إن في إعطائهن الباقي تسوية بينهم وبين البنين والإخوة ، وقد فرق الله تعالى بينهما فيما قدره لأحدهما وأرسله للآخر ، فلم يجز أن يسوى بين المقدر والمرسل .

                                                                                                                                            [ ص: 131 ] وأما ضيق المال عن نصفين وثلث ، فلعمري إنه يضيق عن ذلك مع عدم العول ، ويتبع له مع وجود العول فلم يمتنع ، وأما قوله إنه يقدم من قدم الله ، فكلهم مقدم لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه ليس يحجب بعضهم بعضا ، وفيما قاله ابن عباس حجب بعضهم ببعض .

                                                                                                                                            والثاني : أن فرض جميعهم مقدر وفيما قاله ابن عباس إبطال التقدير فرضهم فثبت ما قلناه ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية