الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " ثم يعرف عدد الفرسان والرجالة الذين حضروا القتال فيضرب كما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للفرس سهمين وللفارس سهما وللراجل سهما ، وليس يملك الفرس شيئا إنما يملكه صاحبه لما تكلف من اتخاذه واحتمل من مؤنته وندب الله تعالى إلى اتخاذه لعدوه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال : إذا أفرد الإمام خمس الغنيمة على أربعة أخماسها يبدأ بالغانمين ، فقسم فيهم أربعة أخماس الغنيمة وقدمهم على أهل الخمس لثلاثة معان :

                                                                                                                                            أحدها : لحضورهم وغيبة أهل الخمس .

                                                                                                                                            والثاني : أنه في مقابلة اجتهادهم ، فصار معاوضة ، وحق أهل الخمس مواساة .

                                                                                                                                            والثالث : أن بهم ملك أهل الخمس خمسهم ، فكانوا أقوى في الغنيمة منهم ، فإذا شرع في قسمتها فيهم لم يخل حالهم من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            إما أن يكونوا رجالة لا فارس فيهم ، أو فرسانا لا رجال فيهم ، أو يكونوا فرسانا ورجالا .

                                                                                                                                            فإن كانوا رجالة لا فارس فيهم ، أو فرسانا لا رجال فيهم سوى بينهم وقسمها على أعداد رءوسهم ، ولم يفضل شجاعا على جبان ولا محاربا على كاف : لأن جميعهم حاضر مكثر ، ورد مهيب ، كما يسوى في المواريث بين البار والعاق والمحسن والمسيء لتساويهم في النسب .

                                                                                                                                            [ ص: 415 ] وإن كانوا فرسانا ورجالة فضل الفارس على الراجل .

                                                                                                                                            واختلفوا في قدر ما يفضل به ، فذهب الشافعي إلى أنه يعطي الفارس ثلاثة أسهم ، سهما له وسهمين لفرسه ، ويعطي الراجل سهما واحدا ، وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - ، ومن التابعين عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وابن سيرين ، ومن الفقهاء مالك مع أهل المدينة ، والأوزاعي مع أهل الشام ، والليث بن سعد مع أهل مصر ، وأحمد وإسحاق مع أصحاب الحديث ، والثوري وأبو يوسف ومحمد مع أهل العراق ، إلا أبا حنيفة وحده فإنه تفرد عنهم فذهب إلى أنه يعطي الفارس سهمين والراجل سهما ، استدلالا برواية عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الفارس سهمين ، فبرواية المقداد قال : أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهما لي وسهما لفرسي ، وبرواية مجمع بن حارثة الأنصاري قال : قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة ، فمنهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين : والراجل سهما : لأنه جعل لثلاثمائة فارس ستمائة سهم حتى صار لكل مائة منهم سهم واحد من خيبر .

                                                                                                                                            ومن القياس : أنه حيوان يسهم له ، فوجب ألا يزاد على سهم كالراجل ، ولأن الفرس تبع ؛ ألا تراه لو حضر بلا صاحبه لم يسهم له ! ولو حضر صاحبه بلا فرس أسهم له ، ولا يجوز أن يكون سهم التابع أفضل من سهم المتبوع ؛ ولأن عناء صاحبه أكثر تأثيرا وتأثيره أظهر : لأنه هو المقاتل دون الفرس . وسهم الغنيمة إنما يستحق بحسب العناء وعلى قدر البلاء : فلم يجز أن يفضل ما قل تأثيره على ما كثر ، قال أبو حنيفة : لأن في إعطاء الفرس سهمين وصاحبه سهما تفضيلا للبهيمة على الآدمي ، وإني لأستحي أن أفضل بهيمة على آدمي .

                                                                                                                                            قال أصحابه : ولأن القياس يقتضي أن لا يسهم للفرس : لأنه آلة كالسلاح ، ولأنه بهيمة كالبغال ، ولكن صرنا إلى إعطائه سهما واحدا بالإجماع ، ومنع القياس من الزيادة عليه .

                                                                                                                                            ودليلنا ما رواه عبيد الله بن عمرو العمري عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم للراجل ولفرسه ثلاثة أسهم ، سهما له وسهمين لفرسه . وهذا حديث صحيح رواه أئمة الحديث وقد روى جابر وأبو هريرة مثله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وروى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب وطلحة والزبير قالوا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسهم للفارس [ ص: 416 ] ثلاثة أسهم : سهما له وسهمين لفرسه وهذا إخبار عن استدامة فعله . لكن الحديث الأول أشهر وأصح : لأن مدار هذا على بشر بن معاذ وفيه لين .

                                                                                                                                            وروى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم .

                                                                                                                                            وروى الشافعي أن الزبير بن العوام كان يضرب في المغنم بأربعة أسهم ، سهم له : وسهمين لفرسه ، وسهم لأمه صفية : لأنها من ذوي القربى وكل هذه الأخبار نصوص تمنع من الخلاف .

                                                                                                                                            فإن قيل : فيحمل السهم الثالث في هذه الأخبار على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفعه إلى الفارس نفلا كما نفل الربع في البداءة والثلث في الرجعة ؛ فعن ذلك أربعة أجوبة :

                                                                                                                                            أحدها : أن السهم عبارة عن المستحق لا عن النفل .

                                                                                                                                            والثاني : أن النفل يستحق بالشرط وليس في الفرس شرط .

                                                                                                                                            والثالث : أن النفل لا يكون للفرس .

                                                                                                                                            والرابع : أن حكم السهم الثالث كحكم السهمين المتقدمين ، فلما لم يكونا نفلا لم يكن الثالث نفلا .

                                                                                                                                            ثم الدليل من جهة القياس أنه مقدر يزيد على مقدر على وجه الرفق ، فوجب أن يكون بالضعف قياسا على المسح على الخفين ؛ لما مسح المقيم يوما وليلة أرفق المسافر بثلاثة أيام ولياليهن ، ولأن مؤنة الفرس أكثر لما يتكلف من علوفه وأجرة خادمه وكثرة آلته فاقتضى أن يكون المستحق به أكثر ، ولأنه في الحرب أهيب وتأثيره في الكر والفر أظهر ، فاقتضى أن يكون سهمه أوفر .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن حديث عبيد الله بن عمرو العمري فمن ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أنه عند أصحاب الحديث ضعيف وأخوه عبد الله أقوى عندهم منه وأصح حديثا ، وقد روينا عنه خلاف ما رواه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن خبر عبد الله أزيد من خبره والأخذ بالزيادة أولى .

                                                                                                                                            والثالث : أنه يحمل سهم الفارس على الزيادة التي استحقها بفرسه على السهم الراتب لنفسه فيصير ذلك ثلاثة أسهم كما روينا استعمالا للروايتين ، فيكون أولى من إسقاط [ ص: 417 ] إحداهما بالأخرى ، كما روي في صلاة العيدين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في الأولى سبعا وفي الثانية خمسا فحملنا ذلك على التكبير الزائد على التكبيرة الراتبة في الإحرام والقيام .

                                                                                                                                            وأما حديث المقداد فقد روت عنه بنته كريمة أنه قال : أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أسهم : سهما لي وسهمين لفرسي . فتعارضت الروايتان عنه وسقطتا واستعملتا على ما وصفنا .

                                                                                                                                            وأما حديث مجمع بن حارثة فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : ما قاله أبو داود أن مجمعا وهم في حديثه ، أنهم كانوا ثلاث مائة فارس وإنما كانوا مائتي فارس .

                                                                                                                                            والثاني : أنه قد روي عنه أنهم كانوا ألفا وأربعمائة فهم مائتا فارس . وهذه الرواية أصح من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن رواية ابن عباس توافقها .

                                                                                                                                            والثاني : أن هذا الجيش هم أهل الحديبية ، وقد اتفق أهل السير على أن عدتهم ألف وأربعمائة . وأما الجواب عن قياسهم على الراجل لعلة أنه حيوان يسهم له فهو أن الفرس لا يسهم له وإنما يسهم لصاحبه لأجله ، فكان الوصف غير سليم ، ثم المعنى في الفرس أن مؤنته أكثر وبلاءه أظهر ، فجاز أن يكون ما يستحق به أكثر ، وأما قولهم أنه تابع فلا يجوز أن يكون سهمه أكثر من سهم المتبوع .

                                                                                                                                            فالجواب عنه أن كلا السهمين للمتبوع ليس للتابع سهم وهو أكثر ، على أن ذلك لو جاز أن يمنع من الزيادة لجاز أن يمنع من المساواة : لأنه إذا لم يجز أن يزيد على المتبوع لم يجز أن يساويه .

                                                                                                                                            وأما قولهم إن عناء صاحبه أكثر لأنه هو المقاتل ، فالجواب عنه أن كلا العنائين مضاف إلى صاحبه إلا أن تأثيره لفرسه أكثر من تأثيره لنفسه : لأنه بالفرس يلحق إن طلب ولا يلحق إن هرب .

                                                                                                                                            وأما قول أبي حنيفة : " إنني أستحي أن أفضل بهيمة على آدمي " ، فيقال له : لئن استحييت أن تفضل بينهما فاستح أن تساوي بينهما وأنت قد سويت .

                                                                                                                                            ثم يقال له : ألست قد فضلت قيمة البهيمة إذا تلفت على ذمة الحر إذا قتل ولم يوجب ذلك الاستحياء ، فكذلك في السهم على أنه ليس السهم للبهيمة فيستحي من تفضيلها به وإنما هو لصاحبها والبهيمة لا تملك .

                                                                                                                                            وأما قولهم أن القياس يمنع من السهم للبهيمة ، فهذا قياس قد أبطله النص فبطل .

                                                                                                                                            [ ص: 418 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية