الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - : " فإن كان رجل جلد ، يعلم الوالي أنه صحيح مكتسب ، يغني عياله أو لا عيال له يغني نفسه بكسبه لم يعطه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال ، المكتسب بصنعته قدر كفايته وكفاية عياله لا يكون فقيرا وتحرم عليه الزكاة وإن لم يكن له مال . وقال أبو حنيفة : لا تحرم عليه الزكاة ، وإن كان مكتسبا حتى يملك نصابا تجب فيه الزكاة ، أو ما يبلغ قيمته نصابا ؛ فجعل الفقر معتبرا بعدم النصاب وإن [ ص: 491 ] كان قادرا على كفايته بنفسه ، وجوز له أخذ الزكاة وجعل الغناء معتبرا بملك النصاب وإن عجز عن كفايته وحظر عليه أخذ الزكاة استدلالا لقوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين [ التوبة : 60 ] والفقير هو العادم ، وهذا عادم وإن كان مكتسبا ، وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم فميز الأغنياء بأخذ الصدقة منهم وميز الفقراء بدفع الصدقة إليهم ، فوجب أن يكون من تؤخذ منه الصدقة غنيا ، وإن كان غير مكتسب ، ومن تدفع إليه فقيرا ، وإن كان مكتسبا .

                                                                                                                                            وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من سألنا أعطيناه وقال : أعطوا السائل ولو جاء على فرس وقد سأل المكتسب ، فوجب أن يعطى ، ولأنه لا يملك نصابا ولا قيمته ، فوجب أن يكون فقيرا تحل له الصدقة قياسا على غير المكتسب ، ولأنه لما لم يكن المكتسب غنيا في وجوب الحج والتكفير بالعتق لم يكن غنيا في تحريم الزكاة ، ولأنه لما حلت الزكاة من سهم الغارمين حلت له من سهم الفقراء والمساكين ، ودليلنا ما رواه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبيد الله بن عدي أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألاه من الصدقات فصعد النظر فيهما وصوب وقال : " إن شئتما ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب " فجعل الكسب كالغنى بالمال في تحريم الصدقات .

                                                                                                                                            وروى سالم بن أبي الجعد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي قدرة فحرم الصدقة بالقدرة على الكسب كما حرمها بالغنى ، ولأنه مستديم القدرة على كفايته ، فوجب أن تحرم عليه الزكاة بالفقر والمسكنة كالقادر على نصاب ، أو كالمشتغل لوقف ؛ ولأن من حرمت عليه المسألة حرمت عليه الصدقة كالغني ، ولأنه لما كان الاكتساب كالغنى في سقوط نفقته عن والديه ومولوديه ووجوبها عليه لوالديه ومولوديه كان كالغنى في تحريم الصدقات .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن الآية فهو أن الفقر ليس العدم وإنما هو الحاجة ؛ والمكتسب غير محتاج . وأما الجواب عن قوله : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم فهو أنه قد يكون في الناس من لا تؤخذ منه ولا تدفع إليه فهو مالك ما لا يزكى ، فكذلك المكتسب ، فجاز أن يكون منهم من تؤخذ منه فتدفع إليه وهو مالك ما يزكى إذا كان غير مكتسب .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - : من سألنا أعطيناه فهو أن معناه من أظهر لنا الفقر قبلنا منه : لأن الأصل في الناس العدم .

                                                                                                                                            [ ص: 492 ] وأما قوله : أعطوا السائل ولو جاء على فرس ، فهو دليلنا : لأن أبا حنيفة يمنعه إذا كان ثمن فرسه نصابا ونحن نعطيه إذا كان محتاجا .

                                                                                                                                            وأما قياسه على غير المكتسب فالمعنى فيه الحاجة ، والمكتسب غير محتاج .

                                                                                                                                            وأما قوله : " لما لم يكن الاكتساب كالمال في وجوب الحج والتكفير بالعتق كذلك في تحريم الزكاة " فهو فاسد بنفقات الأقارب التي يجعل الاكتساب فيها كالمال ، ثم وجوب الحج والتكفير بالعتق يتعلقان بوجود المال والمكتسب غير واجد وتحريم الزكاة يتعلق بالكفاية والمكتسب مكتف ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية