الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : قال الشافعي : " وأحسبه يقول وتنقل سهمان أهل الصدقات إلى أهل الفيء إن جهدوا وضاق الفيء وينقل الفيء إلى أهل الصدقات إن جهدوا وضاقت الصدقات على معنى إرادة صلاح عباد الله ( قال الشافعي ) وإنما قلت بخلاف هذا القول لأن الله - جل وعز - [ ص: 551 ] جعل المال قسمين أحدهما في قسم الصدقات التي هي طهرة فسماها الله لثمانية أصناف ووكدها ، وجاءت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم لا فقراء غيرهم ، ولغيرهم فقراء ، فلا يجوز فيها عندي والله أعلم أن يكون فيها غير ما قلت من ألا تنقل عن قوم وفيهم من يستحقها ولا يخرق سهم ذي سهم منهم إلى غيره وهو يستحقه ، وكيف يجوز أن يسمي الله تعالى أصنافا فيكونوا موجودين معا فيعطي أحدا سهمه وسهم غيره ، ولو جاز هذا عندي جاز أن يجعل في سهم واحد جميع سهام سبعة ما فرض لهم ، ويعطى واحد ما لم يفرض له ، والذي يخالفنا يقول لو أوصى بثلثه لفقراء بني فلان وغارمي بني فلان رجل آخر وبني سبيل وبني فلان رجل آخر . إن كل صنف من هؤلاء يعطون من ثلثه ، وأن ليس لوصي ولا وال أن يعطي الثلث صنفا دون صنف وإن كان أحوج وأفقر من صنف : لأن كلا ذو حق بما سمي له . وإذا كان هذا عندنا وعند قائل هذا القول فيما أعطي الآدميون أن لا يجوز أن يمضي إلا على ما أعطوا ، فعطاء الله أولى ألا يجوز أن يمضي إلا على ما أعطى .

                                                                                                                                            ( قال ) وإذا قسم الله الفيء وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أربعة أخماسه لمن أوجف على الغنيمة للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم ، ولم نعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضل ذا غناء على من دونه ولم يفضل المسلمون الفارس أعظم الناس غناء على جبان في القسم ، وكيف جاز لمخالفنا في قسم الصدقات وقد قسمها الله تعالى أمين القسم بعضا دون بعض وينقلها عن أهلها المحتاجين إليها إلى غيرهم ؛ لأن كانوا أحوج منهم ، أو يشركهم معهم ، أو ينقلها عن صنف منهم إلى صنف غيره ، ( أرأيت ) لو قال قائل لقوم أهل غزو كثير أوجفوا على عدو أنتم أغنياء ، فآخذ ما أوجفتم عليه فأقسمه على أهل الصدقات المحتاجين إذا كان عاما سنة لأنهم من عيال الله تعالى ، هل الحجة عليه ، إلا أن من قسم الله له بحق فهو أولى به وإن كان من لم يقسم له أحوج منه ؟

                                                                                                                                            وهكذا ينبغي أن يقال في أهل الصدقات ، وهكذا لأهل المواريث لا يعطى أحد منهم سهم غيره ولا يمنع من سهمه لفقر ولا لغنى ، وقضى معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أيما رجل انتقل من مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته فعشره وصدقته إلى مخلاف عشيرته . ففي هذا معنيان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه جعل صدقته وعشره لأهل مخلاف عشيرته ، لم يقل لقرابته دون أهل المخلاف ، والآخر أنه رأى أن الصدقة إذا ثبتت لأهل مخلاف عشيرته لم تحول عنهم صدقته وعشره بتحوله عنهم وكانت كما يثبت بدءا ، فإن قيل : فقد جاء عدي بن حاتم أبا بكر - رضي الله عنه - بصدقات والزبرقان بن بدر ، فهما وإن جاءا بها فقد تكون فضلا عن أهلها ، ويحتمل أن يكون بالمدينة أقرب الناس بهم نسبا ودارا ممن يحتاج إلى سعة من مضر وطيء من اليمن [ ص: 552 ] ويحتمل أن يكون من حولهم ارتدوا فلم يكن لهم فيها حق ، ويحتمل أن يؤتى بها أبو بكر - رضي الله عنه - ثم يردها إلى غير أهل المدينة وليس في ذلك خبر عن أبي بكر نصير إليه . فإن قيل : فإنه بلغنا أن عمر - رضي الله عنه - كان يؤتى بنعم من الصدقة فبالمدينة صدقات النخل والزرع والناس والماشية ، وللمدينة ساكن من المهاجرين والأنصار ، وحلفاء لهم وأشجع وجهينة ومزينة بها وبأطرافها وغيرهم من قبائل العرب ، فعيال ساكني المدينة بالمدينة ، وعيال عشائرهم وجيرانهم وقد يكون عيال ساكني أطرافها بها وعيال جيرانهم وعشائرهم فيؤتون بها وتكون مجمعا لأهل السهمان كما تكون المياه والقرى مجمعا لأهل السهمان من العرب ، ولعلهم استغنوا فنقلها إلى أقرب الناس بهم وكانوا بالمدينة ، ( فإن قيل ) فإن عمر - رضي الله عنه - كان يحمل على إبل كثيرة إلى الشام والعراق ، فإنما هي - والله أعلم - من نعم الجزية : لأنه إنما يحمل على ما يحتمل من الإبل ، وأكثر فرائض الإبل لا تحمل أحدا . وقد كان يبعث إلى عمر بنعم الجزية فيبعث فيبتاع بها إبلا جلة فيحمل عليها ( وقال ) بعض الناس مثل قولنا في أن ما أخذ منهم فسبيله سبيل الصدقات ) .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذه مسألة سادسة أراد بها أهل العراق ، ولعل أبا حنيفة معهم فإنهم جوزوا نقل الصدقات إلى أهل الفيء ونقل الفيء إلى أهل الصدقات اعتبارا بشدة الحاجة ، ثم اختلفوا بعد النقل هل يقضى من نقل عنه سهمه إذا اتسع مال المنقول إليه ، فمنهم من أوجب القضاء ، ومنهم من أسقطه ، وعند الشافعي لا يجوز نقل الصدقة إلى أهل الفيء وإن جهدوا ، ولا نقل الفيء إلى أهل الصدقات وإن جهدوا . ويقسم كل واحد من الحالين في أهله : لأن الله تعالى سمى لكل مال مالكا ، فلم يجز أن يعدل به عنه لما فيه من إبطال النص ، ولأنه لما لم يجز أن يعدل بالغنيمة عمن سماه الله تعالى فيها انقيادا لحكم النص ، وإن كان غيرهم أشد ضرورة وأمس حاجة لم يجز في مال الفيء والصدقات أن يعدل به عن حكم النص ، ولأنه لما كانت عطايا الآدميين من الوصايا لا يجوز أن يعدل بها عمن سميت له فعطايا الله تعالى أولى ، ولأنه لما لم يجز أن يعدل بالمواريث عمن سماه الله تعالى إلى من هو آثر وأحوج ، فكذلك مال الفيء والصدقات ، ولأن عمر - رضي الله عنه - كان يسم إبل الصدقة ميسما وإبل الجزية ميسما ؛ فلولا تميز المستحق لكل واحد من المثالين لما ميز بالميسم .

                                                                                                                                            فإن قيل : فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يحمل على إبل كثيرة من إبل الصدقة إلى الشام والعراق فدل على جواز دفع الصدقة إلى أهل الفيء .

                                                                                                                                            قال الشافعي جوابا عن هذا : إن عمر إنما كان يحمل على إبل الجزية لا على إبل الصدقة : لأن أكثر فرائض الإبل في الصدقات لا يحمل عليه ، وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يبعث إليه بنعم الجزية فيبعث بها فيبتاع بها إبلا يحمل عليها .

                                                                                                                                            [ ص: 553 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية