الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما مجاهد فاستدل على أن الكفارة تجب بالظهار وحده وأن العود فيه [ ص: 444 ] إعادته في الإسلام بعد تقدمه في الجاهلية برواية محمد بن كعب عن عجرة عن خولة بنت ثعلبة أنها كانت تحت أوس بن الصامت وكان به لمم، وكان إذا أخذه لممه ذهب ليخرج فتمنعه فيقول : أنت علي كظهر أمي، إن لم ترسليني لأجلدنك مائة، فنزل فيهما قرآن الظهار واستدل بقوله تعالى وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا فأوجب الكفارة بالمنكر الزور، والظهار هو المنكر، والزور دون العود ، ولأن الله تعالى نهى عن الظهار فكان العود فيه هو فعل المنهي كما قال في جزاء الصيد : ومن عاد فينتقم الله منه [ المائدة : 95 ] يعني إلى فعل ما نهى الله عنه وكما قال في الربا " عفا الله عما سلف " فإن عاد يعني إلى ذلك المنهي فينتقم الله منه ولأن الظهار قد كان طلاقا في الجاهلية فنقل حكمه إلى ما استقر عليه في الشرع فاقتضى أن يكون حكمه معتبرا بلفظه كالطلاق .

                                                                                                                                            والدليل عليه قول الله تعالى والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة [ المجادلة : 3 ] فجعل الكفارة واجبة بشرطين :

                                                                                                                                            أحدهما : الظهار والآخر العود فاقتضى أن لا تجب بأحدهما . فإن قيل : فيحمل على العود في الإسلام بعد تقدمه في الجاهلية .

                                                                                                                                            قيل : لا يجوز حمله على هذا من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أنه لو كان محمولا على هذا لذكره بلفظ الماضي دون المستقبل فقال تعالى والذين يظاهرون من نسائهم وفي ذكره باللفظ المستقبل دليل على فساد هذا التأويل .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو كان محمولا على ما ذكروه لما لزمت الكفارة في الظهار إلا لمن جمع فيه بين الجاهلية والإسلام، ولبطل حكمه الآن لانقراض من أدرك الجاهلية .

                                                                                                                                            والثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أوس بن الصامت وسلمة بن صخر بالكفارة عن ظهارهما ولم يسلهما عن ظهارهما في الجاهلية، ولو كان شرطا في الوجوب لسألهما ، فإن قيل : فما سألهما عن العود فلو كان شرطا في الوجوب لسأل قيل : العود الإمساك عن الطلاق، وقد علم أنهما لم يطلقا، فعلم بذلك عودهما . لأن الظهار والإيلاء كانا طلاقا في الجاهلية فنقلا في الشرع إلى موجب الكفارة، ثم ثبت أن الكفارة في الإيلاء تجب بشرطين : اليمين والوطء، فوجب أن تكون الكفارة في الظهار بشرطين : الظهار والعود . وأما الجواب عن الخبر : فهو أن ليس في تكرار ظهاره دليل على تقدمه قبل إسلامه . وأما الجواب عن قوله وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا فهو أن قول الزور من شروط التحريم، والكفارة في الآية الأخرى معلقة بشرطين : الظهار والعود . [ ص: 445 ] وأما الجواب عن قوله : العود فعل المنهي عنه ، فهو أن ذلك غير مسلم، بل هو الرجوع ، والمنهي عنه هو تحريم الظهار ، والرجوع فيه أن يحرمها بالطلاق، فكان في هذا دليل على ما قلنا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بالطلاق : فهو أن الطلاق مطلق، والظهار مقيد ولو جاز حمل أحدهما على الآخر كان حمل المطلق على المقيد أولى من حمل المقيد على المطلق وإذا لم يجز هذا كان حمل كل واحد منهما على موجبه أولى .

                                                                                                                                            فصل : وأما داود فاستدل على أن العود إعادة الظهار ثانية بعد أولى بقول الله تعالى ثم يعودون لما قالوا فتجيء منه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن العود إلى الشيء هو فعل مثله كما قال تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه [ الأنعام : 28 ] يعني إلى مثل ما نهوا عنه من الشرك فاقتضى أن يكون عود الظهار إعادة مثله .

                                                                                                                                            والثاني : قال " لما قالوا " فاقتضى أن يكون العود قولا لا إمساكا كما قلتم ولا فعلا كما قاله غيركم .

                                                                                                                                            وأما الثالث : فإنه لو أراد العود إلى غير القول لقال " ثم يعودون " كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - العائد في هبته كالعائد في قيئه فلما قال " لما قالوا " دل على أنه إعادة القول ، كما قال سبحانه الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه [ المجادلة : 8 ] يعني من قول النجوى .

                                                                                                                                            والدليل عليه قوله تعالى يعودون لما قالوا فيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن حقيقة العود في الأفعال دون الأقوال ؛ يقال : عاد يعود عودا في الفعل وأعاد يعيد إعادة في القول ، فلو أراد إعادة القول لقال " ثم يعيدون لما قالوا " .

                                                                                                                                            والثاني : أن إعادة القول محال كإعادة أمس ؛ لأنه لا يتهيأ اجتماع زمانين ولا بد فيه من إضمار ، فداود يضمر مثل ما قالوا في التحريم بالقول، ونحن نضمر بعض ما قالوه من التحريم بالإمساك ، وما قلناه من الإضمار أولى ؛ لأن العود في الشيء هو الرجوع عنه دون المقام عليه كما قال - صلى الله عليه وسلم - العائد في هبته كالعائد في قيئه .

                                                                                                                                            والثالث : أن العود هو مفارقة الحال التي هو فيها إلى حال كان عليها كما قال الله تعالى وإن عدتم عدنا [ الإسراء : 8 ] .

                                                                                                                                            وكما قال الشاعر :

                                                                                                                                            . . . . . . . . . .

                                                                                                                                            وإن عاد للإحسان فالعود أحمد

                                                                                                                                            [ ص: 446 ] والحال التي هو عليها : تحريم الظهار ، والتي كان عليها : إباحة النكاح ، فكان حمله على ما ذكرنا من إمساكها على ما كان عليه من الإباحة أولى من حمله على ما هو عليه من إعادة التحريم، ويدل عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أوس بن الصامت وسلمة بن صخر بالكفارة عن ظهارهما ولم يسلهما عن إعادته ولو كان عود القول شرطا لسأل ، ولأن كفارة الظهار معلقة بلفظ وشرط فاقتضى أن يكون الشرط يخالف اللفظ دون إعادته كالإيلاء وسائر الأيمان ، ولأن القول الذي تلزم به الأحكام لا يقتضي التكرار كالأيمان .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم : إن العود في الشيء هو فعل مثله فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : ما ذكرنا من أن حقيقة العود الانتقال إلى ما كان عليه دون المقام على ما هو عليه .

                                                                                                                                            والثاني : أن العود إلى مثل ما تقدم من الإباحة دون ما هو عليه من التحريم وأما الجواب عن قولهم : أنه وصف العود بالقول دون الفعل فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه عود إلى القول بنقضه وإبطاله لا بتصحيحه وإثباته فكان ما ذكرنا أشبه .

                                                                                                                                            والثاني : ما ذكره الأخفش أن في الكلام تقديما وتأخيرا لأن قوله : ثم يعودون كلام تام وقوله لما قالوا عائد إلى تحرير الرقبة ويكون تقدير الكلام " ثم يعودون فتحرير رقبة لما قالوا " .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم : إنه لو أراد العود إلى غير القول لقال " ثم يعودون فيما قالوا " فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لو أراد العود إلى القول لقال " ثم يعودون لما قالوا " وسط بين الحقيقتين ، فاقتضى أن يحمل العود على تعين الحال الجامعة بين الأمرين كما قال الشاعر :


                                                                                                                                            تلك المكارم لا قعبان من لبن     شيبا بماء فعادا بعد أبوالا [ ص: 447 ]

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن القول ها هنا عبارة عن القول ، كما قال الله تعالى : واعبد ربك حتى يأتيك اليقين [ الحجر : 99 ] أي المتيقن ، وكقولهم : الله رجائي وأملي أي مرجوي ومؤملي ، والقول هو التحريم فكان العود الرجوع عنه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية