الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : ودليلنا الكتاب والسنة والاعتبار . فأما الكتاب فقوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة : 228 ] ومنه دليلان : أحدهما : ما أوجبه من التربص بالأقراء عقيب الطلاق المباح ، وهو الطلاق في الطهر فاقتضى أن تصير معتدة بالطهر ؛ ليتصل اعتدادها بمباح طلاقها ، ومن اعتد بالحيض لم يصل العدة بالطلاق سواء كان مباحا في طهر أو محظورا في حيض ، فكان قولنا بالظاهر أحق .

                                                                                                                                            والثاني : أن الله تعالى قال : ثلاثة قروء فأثبت التاء في العدد ، وإثباتها يكون في معدود مذكر ، فإن أريد مؤنثا حذفت كما يقال : ثلاثة رجال ، وثلاث نسوة ، والطهر مذكر والحيض مؤنث فوجب أن يكون جمع المذكر متناولا للطهر المذكر دون الحيض المؤنث .

                                                                                                                                            وقال تعالى : ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن [ الطلاق : 1 ] ومنه دليلان : أحدهما : أن قوله : لعدتهن أي لوقت عدتهن ، ثم كان هذا الطلاق مأمورا به في الطهر ، فوجب أن يكون الطهر هو العدة دون الحيض . فإن قيل : إنما جعل الطهر عدة الطلاق دون الاحتساب فعنه جوابان : أحدهما : أن دخول لام الإضافة يقتضي أن تكون العدة لها لا عليها ، وعدة الاحتساب الذي هو لها أولى من حمله على عدة الطلاق الذي هو عليها مع قوله عز وجل : وأحصوا العدة [ الطلاق : 1 ] والإحصاء لعدة الاحتساب دون الطلاق . والثاني : أنه محمول على الأمرين من عدة الطلاق والاحتساب معا ، فيكون أولى من حمله على أحدهم . والدليل الثاني : من الآية أن قوله تعالى : لعدتهن يقتضي استقبال العدة واتصالها بالطلاق لأمرين . أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : فطلقوهن لقبل عدتهن . وقبل الشيء : ما اتصل بأوله ، فكان القبل والاستقبال سواء . والثاني : أن دخول اللام على الشرط يقتضي اتصاله بالمشروط كما يقول القائل : [ ص: 168 ] أطعم زيدا ليشبع وأعط زيدا ليعمل ، يقتضي التعقيب دون التأخير . ومن جعل الأقراء الأطهار اعتد ببقية الطهر الذي وقع فيه هذا الطلاق المأمور به فوصل به العدة . ومن جعلها الحيض لم يعتد ببقيته ففصل بينه وبين العدة . فإن قيل : فنحن يمكننا أن نصل العدة بهذا الطلاق إذا كان في آخر الطهر ؛ لاتصال الحيض به وهو معتد به عندنا وغير معتد به عندكم ، فساويناكم في هذا الظاهر حيث وصلنا بينهما في هذا الوضع دونكم ووصلتم بينهما في ذلك الموضع دوننا . قيل : قد اختلف أصحابنا في الاعتداد بزمان الطلاق إذا كان آخر أجزاء الطهر على وجهين حكاهما ابن سري : أحدهما : يعتد به قرءا ، ويكون العدة والطلاق معا كما لو قال : أعتق عبدك عني بألف فأعتقه ، كان وقت عتقه وقتا للتمليك والعتق جميعا ، فعلى هذا لم يسلم لهم التساوي في الظاهر ، لأننا نساويهم في الموضع الذي استعملناه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وحكاه عن الشافعي نصا في الجامع الكبير أنه لا يقع الاعتداد بزمان الطلاق حتى يتعقبه زمان العدة ليتميزا ، فتكون العدة بعد الطلاق ، ولو وقع الاعتداد بزمان الطلاق لصارت العدة متقدمة على الطلاق ، وهذا مستحيل ، فعلى هذا هم يستعملون الظاهر في نادر غير معتاد ، ونحن نستعمله في غالب معتاد ، فكان حمل الظاهر على استعمال معتاد أولى من حمله على تكلف استعمال نادر . وأما السنة : فما روي أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : " مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك ، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء " . فجعل الطهر زمان العدة والطلاق ، فدل على أن الأقراء : الأطهار . فإن قيل : فقوله : فتلك إشارة منه إلى مؤنث ، فلم يجز أن يعود إلى الطهر لأنه مذكر وعاد إلى الحيض لأنه مؤنث . قيل : لا يجوز أن يتوجه الإشارة إلى الحيض ، لأن زمان الطلاق المأمور به الطهر دون الحيض ، وتكون إشارة التأنيث محمولة على العدة أو على حال الطهر والحال مؤنثة ، وأما الاعتبار فقياس واستدلال واشتقاق . [ ص: 169 ] فأما القياس فقياسان : أحدهما : ما أثبت الطهر . والثاني : ما نفى الحيض . فأما ما أثبت الطهر فقياسان : أحدهما : أن وجوب العدة إذا تعقبه طهر أوجب الاعتداد بذلك الطهر كالصغيرة والمؤيسة . والثاني : أن العدة إذا اشتملت على خارج من الرحم كان الاعتداد بحال كمونه دون ظهوره كالحمل . وأما ما نفى الحيض فقياسان : أحدهما : أن وجوب العدة إذا تعقبه حيض لم يقع الاعتداد به كالمطلقة في الحيض . والثاني : أنه دم لا يقع الاعتداد ببعضه ، فوجب أن لا يعتد بجميعه كدم النفاس ، وأما الاشتقاق فهو أن القرء من قرا يقري ؛ أي جمع ، ومنه قولهم : قرا الطعام في فمه ، وقرا الماء في جوفه ، ولذلك سمي مقراة لاجتماع الماء فيه كما قال امرؤ القيس :

                                                                                                                                            فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

                                                                                                                                            . . . . . . . . . . . . . . . . ومن ذلك سميت القرية قرية لاجتماع الناس فيها ، وسمي القرآن قرآنا لاجتماعه قال الله : فإذا قرأناه فاتبع قرآنه [ القيامة : 18 ] يعني إذا جمعناه فاتبع اجتماعه ، وقيل : ما قرأت الناقة ساقطا أي : ما ضمت رحما على ولد ، قال الشاعر في صفة ناقة :

                                                                                                                                            تريك إذا دخلت على خلاء     وقد أمنت عيون الكاشحينا
                                                                                                                                            ذراعي عيطل أدماء بكر     هجان اللون لم تقرأ جنينا

                                                                                                                                            أي لم يجمع بطنها ولدا . وإذا كان القرء هو الجمع كان بالطهر أحق من الحيض ؛ لأن الطهر : اجتماع الدم في الرحم ، والحيض : خروج الدم من الرحم ، وما وافق الاشتقاق كان أولى بالمراد مما خالفه . وأما الاستدلال فمن ثلاثة أوجه : أحدها : أن العدة من حقوق الزوج على الزوجة ، وزمان الطهر أخص بحقوقه من [ ص: 170 ] زمان الحيض لاختصاصه بما يستحقه من الوطء ويملك إيقاعه من الطلاق المباح ، فكذلك العدة يجب أن تكون بالطهر أخص من الحيض . ولك تحريره قياسا فنقول : حق الزوج إذا تفرد بأحد الزمانين كان بالطهر أخص منه بالحيض كالوطء والطلاق . والاستدلال الثاني : أن العدة بالأقراء تجمع حيضا وطهرا ؛ لأنها عندنا ثلاثة أطهار تتخللها حيضتان ، وعندهم ثلاث حيض يتخللها طهران ، وأكثرهما متبوع وأقلها تابع ، فكان الطهر بأن يكون متبوعا أولى من أن يكون تابعا لأمرين : أحدهما : لطرء الحيض على الطهر في الصغر وارتفاعه من بقاء الطهر في الكبر . والثاني : لغلبة الطهر بكثرته على الحيض لقلته . والاستدلال الثالث : أن الطلاق إنما أبيح في الطهر وحظر في الحيض ؛ ليكون تسريحا بإحسان يتعجل به انقضاء العدة وتخفف به أحكام الفرقة ، وانقضاء العدة بالطهر أعجل من انقضائها بالحيض لأمرين : أحدهما : في الابتداء ؛ لأنها تعتد عندنا بالطهر الذي طلقت فيه ولا تعتد عندهم بالحيض الذي طلقت فيه . والثاني : في الانتهاء ؛ لأنها تنقضي عندنا بدخول الحيضة الأخيرة وتنقضي عندهم باستكمال الحيضة الأخيرة ، وما وافق مقصود الإباحة كان أولى بالمراد مما وافق مقصود الحظر .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية