الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 245 ] باب مقام المطلقة في بيتها والمتوفى عنها من كتاب العدد وغيره .

                                                                                                                                            قال الشافعي رحمه الله : " قال الله تعالى في المطلقات لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وقال صلى الله عليه وسلم لفريعة بنت مالك حين أخبرته أن زوجها قتل وأنه لم يتركها في مسكن يملكه " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " وقال ابن عباس : الفاحشة المبينة أن تبدو على أهل زوجها فإذا بدت فقد حل إخراجها ( قال الشافعي ) رحمه الله هو معنى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم مع ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها أرسلت إلى مروان في مطلقة انتقلها " اتق الله واردد المرأة إلى بيتها " قال مروان : أما بلغك شأن فاطمة ؟ فقالت : لا عليك أن تذكر فاطمة ، فقال : إن كان بك شر فحسبك ما بين هذين من الشر ، وعن ابن المسيب تعتد المبتوتة في بيتها ، فقيل له : فأين حديث فاطمة بنت قيس ؟ فقال قد فتنت الناس كانت في لسانها ذرابة فاستطالت على أحمائها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : فعائشة ، ومروان ، وابن المسيب يعرفون حديث فاطمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم كما حدثت ويذهبون إلى ذلك ، إنما كان للشر وكره لها ابن المسيب وغيره أنها كتمت السبب الذي به أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت غير زوجها خوفا أن يسمع ذلك سامع فيرى أن للمبتوتة أن تعتد حيث شاءت ( قال الشافعي ) رحمه الله تعالى : فلم يقل لها النبي صلى الله عليه وسلم اعتدي حيث شئت بل خصها إذ كان زوجها غائبا فبهذا كله أقول .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وجملته أن عدة الزوجات من وجهين من وفاة ، ومن طلاق . فأما عدة الوفاة فلا نفقة فيها ، وفي السكنى قولان : نذكرهما من بعد . وأما عدة الطلاق فضربان . رجعي وبائن ، فأما الرجعية فلها النفقة والسكنى لبقاء أحكام الزوجية عليها . وأما البائن فلها حالتان : حائل وحامل . [ ص: 246 ] فأما الحامل فلها النفقة والسكنى لقول الله تعالى : وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن [ الطلاق : 6 ] . وأما الحائل فقد اختلف الفقهاء في وجوب النفقة لها على ثلاثة مذاهب : أحدها : لها النفقة والسكنى . وبه قال من الصحابة عمر ، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما . ومن التابعين : شريح . ومن الفقهاء : أبو حنيفة وصاحباه . والمذهب الثاني : لا نفقة لها ولا سكنى . وبه قال من الصحابة ابن عباس . ومن التابعين الحسن والشعبي ، وعطاء . ومن الفقهاء الزهري ، وأحمد وإسحاق . والمذهب الثالث : أن لها السكنى والنفقة . وبه قال من الصحابة ابن عمر ، وعائشة رضي الله تعالى عنها . ومن التابعين : سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار . ومن الفقهاء الشافعي ، ومالك ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، والليث بن سعد ، والفقهاء السبعة بالمدينة . فأما الكلام في النفقة فيأتي . وأما السكنى فاستدل من أسقطه بما رواه مجاهد عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت : بت زوجي طلاقي فلم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى ، وقال : إنما النفقة والسكنى لمن يملك زوجها رجعتها . وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس : أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة ، وهو غائب بالشام فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته ، فقال : والله ما لك علي من شيء ، وإنما نتطوع عليك ، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال ليس لك عليه نفقة وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ، ثم قال : تلك امرأة يغشاها أصحابي ، قيل : لأنها كانت تداوي الجرحى ، اعتدي في بيت ابن أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك حيث شئت قالوا : ولأن النفقة والسكنى يجريان مجرى واحدا لاجتماعهما في [ ص: 247 ] الوجوب وفي السقوط : لأنها في حال الزوجية لها النفقة والسكنى ، فإن نشزت سقطت النفقة والسكنى ، فإن طلقت رجعية فلها النفقة والسكنى ، فإن طلقت مبتوتة فليس لها نفقة فوجب أن لا يكون لها السكنى . وتحريره قياسا أن ما أسقط النفقة تسقط السكنى كالموت والنشوز : ولأن السكنى من موجبات النكاح ، والمبتوتة قد سقط حقها من موجبات النكاح كالنفقة . ودليلنا قول الله تعالى : لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة [ الطلاق : 11 ] يعني من بيوت أزواجهن بعد طلاقهن . لأن بيوتهن لا يجوز إخراجهن منها بحال ولو أتين بفاحشة مبينة ، والفاحشة المبينة هاهنا ما قاله ابن عباس أن تبدو على أهل زوجها ، فدل على استحقاق السكنى في عموم المطلقات فإن قيل : المراد به الرجعية دون المبتوتة ، لقول الله تعالى : لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا [ الطلاق : 1 ] يعني رجعة . فعنه جوابان : أحدهما : يجوز أن يكون الذي يحدثه نكاحا . والثاني : يجوز أن يكون أول الكلام عاما في الرجعية والمبتوتة ، وآخره خاصا في الرجعية دون المبتوتة ، وقال تعالى : أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم [ الطلاق : 6 ] فكان على عمومه في الزوجات والمطلقات وإن كان بالمطلقات أخص : لأن ما قبلها وبعدها دليل عليه . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفريعة بنت مالك ، وهي أخت أبي سعيد الخدري حين أخبرته أن زوجها قتل ، ولم يتركها في مسكن يملكه امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله فلما أوجب السكنى لها في عدة الوفاة فأولى أن تجب لها في عدة الطلاق ؛ ولأنها معتدة من طلاق فوجب لها السكنى كالرجعية . فأما حديث فاطمة بنت قيس فكان لإخراجها من بيت زوجها بسبب كتمته وقد ورد من طريقين : أحدهما : ما رواه ميمون بن مهران قال : دخلت المدينة فسألت عن أفقه الناس بها فقالوا : سعيد بن المسيب ، فسألته عن سكنى المبتوتة ، فقال : لها السكنى ، فذكرت له حديث فاطمة بنت قيس ، فقال : تلك امرأة فتنت الناس كان في لسانها ذرابة فاستطالت على أحمائها فنقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لطول لسانها والثاني : ما روي أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق امرأته بنت عبد الرحمن بن الحكم فانتقلها أبوها عبد الرحمن فأرسلت عائشة إلى مروان اتق الله واردد المرأة إلى [ ص: 248 ] بيتها ، تعني أن سكناها واجب ، فقال مروان ، أوما بلغك شأن فاطمة بنت قيس ؟ فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : لا عليك ألا تذكر فاطمة تعني أن تلك كان لها قصة أخرجت لها ، فقال مروان : إن كان بك الشر يعني الذي كان من فاطمة حين أخرجت فحسبك ما بين هذين من الشر ، يعني أنني أخرجتها لأجل الشر الذي أخرجت فاطمة من أجله ، وقول فاطمة : لم يجعل لي نفقة ولا سكنى : فلأنها حين كتمت السبب ، ورأت الرسول صلى الله عليه وسلم قد نقلها إلى بيت ابن أم مكتوم تصورت أنه نقلها لإسقاط سكناها ، وهذا أدل شيء على وجوب السكنى : لأنه لو أسقطها لأرسلها لتسكن حيث شاءت ، وروايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنما النفقة والسكنى للتي يملك زوجها رجعتها يعني أن استحقاقهما معا بمجموعهما يكون للتي يملك زوجها رجعتها : لأن المبتوتة لا تستحقها ، وإنما تستحق أحدهما . وأما استدلالهم بالجمع بين النفقة والسكنى في الوجوب والإسقاط ، فالجواب عنه أن السكنى في الزوجية من حقوق الآدميين كالنفقة : لأنها لا تسقط باتفاقهما على النفقة والسكنى في العدة من حقوق الله تعالى التي لا تسقط بالاتفاق على النقلة فسقطت بسقوط النفقة ما كان من سكنى الزوجية لاتفاقهما في المعنى ولم يسقط سكنى العدة لاختلافهما في العلة ، وبهذا المعنى وفيا في العدة بين السكنى والنفقة . فإن قيل : فإذا كان سكنى العدة من حقوق الله تعالى لم تسقط بالبذاءة والشر . قيل : البذاءة والشر غير موجب لسقوطها ، وإنما توجب النقلة فيها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية