الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر ما وصفنا من أحكام هذه الأقسام ووجبت عليها عدتان عدة من طلاق الأول ، وعدة من وطء الثاني لم تتداخل العدتان ، وأكملت عدة الأول لتقدمه وصحة عقده ، ثم استأنفت بعدها عدة الثاني . وبه قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وعلي بن أبي طالب عليه السلام ، وعمر بن عبد العزيز . وقال مالك ، وأبو حنيفة : تتداخل العدتان ولا يلزمها أكثر من عدة واحدة ، ويكون الباقي من عدة الأول داخلا في عدة الثاني استدلالا بقول الله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ الطلاق : 4 ] فلم يوجب على الحامل عدة غير وضع الحمل ، سواء كان من واحد أو جماعة ، وبقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة : 228 ] فلم يوجب عليها غيرها في عموم الأحوال . قالوا : ولأنهما عدتان ترادفتا فوجب أن تتداخلا كما لو كانتا من واحد ؛ ولأن العدة تراد لاستبراء الرحم ، فإذا عرف في حق أحدهما عرف في حقهما فلم يستفد بالزيادة ما لم يستفد قبلها ؛ ولأن العدة تتصل بسببها ولا تتأخر عنه وذلك موجب لتداخلهما حتى لا تتأخر واحدة منهما عن سببها ؛ ولأن المختلعة يجوز لمخالعها أن يتزوجها في عدتها ، ولو وطئت فيها بشبهة لم يجز أن يتزوجها فلولا أنها في عدة منهما [ ص: 290 ] لجاز له أن يتزوجها ، فاقتضى هذا المنع تداخل العدتين ، ولأن العدة أجل يقضى بمرور الزمان ، فإذا اجتمع أجلان في دين لرجلين تداخلا كذلك إذا اجتمعت عدتان . ودليلنا إجماع الصحابة منقول عن اثنين أمسك الباقون عن مخالفتهما . أحدهما : عن عمر ، رواه الشافعي عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها البتة فنكحت في عدتها فضربها عمر وضرب زوجها بالمخفقة ضربات وفرق بينهما ، ثم قال : أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما ، واعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ثم الآخر ، وكان خاطبا من الخطاب وإن كان دخل بها فرق بينهما ، واعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ثم اعتدت من الآخر ، ثم لم ينكحها أبدا . والثاني : عن علي عليه السلام رواه الشافعي عن عبد المجيد عن ابن جريج عن عطاء : أن رجلا طلق امرأته فاعتدت منه حتى إذا بقي من عدتها نكحها رجل في آخر عدتها وبنى بها فأتي علي بن أبي طالب في ذلك ففرق بينهما وأمرها أن تعتد ما بقي من عدتها الأولى ، ثم تستأنف عدة الثاني ، فإذا انقضت عدتها فهي بالخيار إن شاءت نكحت وإن شاءت فلا . قال الشافعي : أنا أقول بقولهما في أن لا تتداخل العدتان وأقول بقول علي في أنها لا تحرم على الثاني إذا كان قد دخل بها ، وليس لهما في الصحابة مخالف فثبت إجماعا . فإن قيل : فقد خالفهما ابن مسعود . قيل : ليس بثابت مع اشتهار هاتين القصتين من إمامين لو خالفهما غيرهما لاشتهر كاشتهارهما ومن القياس : أنهما حقان مقصوران لآدميين فوجب إذا ترادفا أن لا يتداخلا ، كما لو قتل رجلين قتل بأحدهما وأخذت منه دية الآخر في قول الشافعي ، وفي قول أبي حنيفة قتل لهما وتؤخذ منه الدية تكون بينهما ، وكذلك لو قطع يمنى رجلين اقتص من يمينه لأحدهما ، وأخذت منه دية يمين الآخر في قول الشافعي ، وقول أبي حنيفة على ما ذكرنا في النفس ، وليس تداخل أحد الحقين في الآخر على كل المذهبين في النفوس ، والأطراف ؛ ولأن المرأة محبوسة على الزوج في حقين نكاح وعدة ، فلما امتنع اشتراك الزوجين امتنع تداخل العدتين ؛ ولأن العدة من الحقوق المشتركة من حقوق الله تعالى في التعبد وحق الزوج في حفظ مائه ، وحق الزوجة في السكنى فلم يجز أن تتداخل مع اختلاف مستحقهما ؛ لأنه إن غلب فيها حق الله تعالى لم تتداخل كالحدود والكفارات المختلفة ، وإن غلب فيها حق الآدميين لم تتداخل كالديون ، والقصاص ؛ ولأنه لما لم يجز في عدة أن تتداخل باختلاف من عليه العدة لم [ ص: 291 ] تتداخل باختلاف من له العدة ؛ ولأنها لو وطئت بالشبهة في عدة الوفاة لم تتداخل العدتان ، وكذلك إذا كان الوطء في عدة الطلاق وجب أن لا تتداخل العدتان . فأما الجواب عن الآيتين فهو أن صيغة اللفظ تضمن عدة واحدة فلم يجز أن تحمل على عدتين . وأما قياسهم على تداخل العدتين من واحد فالمعنى فيه : أنه استبراء من ماء واحد فجاز أن يتداخل ، وإذا كان من اثنين فهو استبراء من مائين فلم يتداخلا . وأما قولهم : إنه إذا عرف براءة رحمها عن أحدهما عرف براءته في حقهما . فالجواب عنه أن العدة استبراء وتعبد فإذا عرف الاستبراء لم يسقط معه التعبد كعدة الصغيرة وغير المدخول بها في الوفاة . وقولهم : إن العدة تتصل بسببها ولا تنفصل عنه ففاسد بمسألتنا لانفصال عدة الأول في مدة وطء الثاني ، ثم بالمطلقة في الحيض وليس الحيض وإنها تستقبل العدة بما بعد حيض الطلاق ، وما قالوه من تحريم المختلعة عليه إذا وطئت في عدتها ، فإنما منع من نكاحها ؛ لأنها محرمة عليه بعد عدته حتى تقضي عدة غيره ، فصارت كالمحرمة عليه حتى تنكح زوجا غيره . وأما اعتبارهم بتداخل الأجلين فلا يصح من وجهين : أحدهما : أن الأجل في الدين حق لمن عليه الدين ، وله إسقاطه بالتعجيل ، والأجل في العدة حق على من عليها العدة ، ولا يجوز إسقاطه بالعفو فافترقا . والثاني : أن مقصود الآجال ما بعدها من الحقوق وهي غير متداخلة ، والعدد هي الحقوق المقصودة ، فاقتضى قياسه أن لا يتداخل .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية