الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : ولا تحل أم الولد للأزواج حتى ترى الطهر من الحيضة " . [ ص: 331 ] قال الماوردي : قد ذكرنا أن استبراء أم الولد إذا مات سيدها أو أعتقها في حياته بقرء واحد كالأمة ، وإذا كان كذلك فقد اختلف أصحابنا في هذا القرء هل مقصوده الطهر ، والحيض فيه تبع كالعدة ، أم مقصوده الحيض ، والطهر فيه تبع بخلاف العدة على وجهين ذكرهما البغدادي . ووجه ثالث ذكره البصريون فصار فيها ثلاثة أوجه ؛ لأن كلام الشافعي فيها محتمل ولاحتماله خرجه بعض أصحابنا أقاويل عنه ، فأحد الوجوه : أن المقصود فيه الطهر ، والحيض تبع كالعدة ، فعلى هذا لها عند موت السيد أو عتقه حالتان ، حائض أو طاهر ، فإن كانت حائضا لم تعتد ببقية الحيض ، فإذا انقطع حيضها دخلت في قرونها ؛ فإذا استكملت طهرها ورأت دم الحيضة الثانية حتى وإن كانت طاهرا ، فقد اختلف أصحابنا في بقية هذا الطهر على هذا الوجه هل يكون قرءا معتدا به أم لا ؟ على وجهين : أحدهما : وهو قول البغداديين أنه يكون قرءا كما يكون في العدة قروء لكن تضم إليه حيضة كاملة ليعرف بها براءة الرحم ببقية الطهر ، فإذا مضت بقية طهرها واستكملت الحيضة التي بعدها ، وانقطعت حلت . والوجه الثاني : وهو قول البصريين أنها لا تعتد ببقية هذا الطهر قرءا وإن كان في العدة قروء لأمرين : أحدهما : أنه لو كان قرءا لوقع الاقتصار عليه ، ولم تضم إليه حيضة مستكملة ، ولم يقل أحد ذلك فثبت أنه ليس بقرء . والثاني : وهو فرق وتوجيه : أنه يكون في العدة قروءا لكونه تبعا لأقراء كاملة فقوي حكمه بأتباعها ، ولم يكن قرءا في العدة لانفراده من غيره فضعف عن حكم الكمال ، فعلى هذا لا تعتد ببقية هذا الطهر حتى ينقضي وتحيض ثم الطهر ، فإذا استكملت هذا الطهر ورأت دم الحيضة الثانية حلت فهذا حكم الوجه الأول أن الطهر هو المقصود في هذا القروء كالعدة . والوجه الثاني : أن المقصد في هذا القروء والحيض ، والطهر فيه تبع بخلاف العدة . والفرق بينهما أن في أقراء العدة حيضا كاملا فقوى طهرها في الاستبراء ، فكان الطهر فيها مقصودا وطهر الاستبراء يضعف بانفراده عن براءة الرحم فصار الحيض فيه عقودا ؛ لأن الطهر لا ينافي الحمل ، وإنما ينافيه الحيض ، فعلى هذا لها حالتان حائض أو طاهر ، وإن كانت حائضا لم تعتد ببقية هذا الحيض بوفاق البغداديين [ ص: 332 ] والبصريين ، وإن خالف البغداديون في الاعتداد ببقية الطهر ، وجعله البصريون حجة عليهم في بقية الطهر ، وفرق البغداديون بينهما : بأن بقية الحيض يتعقبه طهر لا يدل على براءة الرحم فلم يعتد به ، وبقية الطهر تتعقبه حيض يدل على براءة الرحم فاعتدت به وهذا ، وهذا تزويق ، وليس تحقيقا ولو عكس لكان أشبه . وقال مالك : إن مات سيدها في أول حيضها اعتدت بتلك الحيضة ، وإن مات في آخرها لم تعتد به ، وفرق بين أول الحيض وآخره بأن قوة أوله تمنع من علوق الولد فبرأ به الرحم ، وضعف آخره لا يمنع من علوق الولد ، فلم يبرأ به الرحم وهذا فاسد من وجهين : أحدهما : أنه لو برئ به الرحم في الاستبراء لبرئ به الرحم في العدة . والثاني : أنه لو برئ الرحم بأوله لم يحتج إلى استكمال آخره . فإذا ثبت ما ذكرنا أنها لا تعتد بقية حيضها ، فإذا طهرت منها ، ودخلت في الحيضة الثانية دخلت في قرئها فإذا استكملتها بانقطاع الدم ودخولها في الطهر الثاني حلت ، وإن كانت عند موت السيد طاهرا لم تعتد ببقية طهرها ، فإذا رأت الدم دخلت في قرئها فإذا استكملت الحيضة ، وطهرت حلت فهذا حكم الوجه الثاني : أن المقصود هو الحيض . والوجه الثالث : وهو الذي تفرد به البصريون أن الطهر والحيض مقصودان معا في قروء الاستبراء ، وإن لم يقصدا معا في أقراء العدة : لأنهما في أقراء العدة يجتمعان فجاز أن يكون أحدهما مقصودا ، وفي قروء الاستبراء لا يجتمعان إلا أن يقصدا ، فلذلك وجب أن يكونا فيه مقصودين ، فعلى هذا لها عند موت السيد حالتان : حائض ، أو طاهر ، فإن كانت حائضا ، فإذا انقطع دمها ورأت الطهر دخلت في قرئها ، فإذا استكملت طهرها ثم حاضت حيضة كاملة بعده ، ودخلت في الطهر الثاني حلت ، وإن كانت طاهرا ، فهل تعتد على هذا الوجه ببقية هذا الطهر أم لا ؟ على وجهين : أحدهما : لا تعتد به كما لا تعتد به على قول البصريين إذا كان الطهر وحده مقصودا ، فعلى هذا إذا رأت الدم بعد بقية هذا الطهر دخلت في قرئها ، فإذا استكملت حيضتها ، ثم استكملت بعدها طهرا كاملا ، ورأت دم الحيضة الثانية حلت . والوجه الثاني : أنها تعتد ببقية هذا الطهر إذا كانا مقصودين ، ولا تعتد به إذا كان أحدهما مقصودا لقوته إذا قرن بغيره ، وضعفه إذا انفردت بذاته ، فعلى هذا يدخل في قرئها في بقية طهرها ، فإذا دخلت في الحيضة ، واستكملتها بانقطاع الدم ، ودخول الطهر حلت ويصير استبراؤها بذلك موافقا لأحكام الوجوه الثلاثة ، والله أعلم . [ ص: 333 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية