الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : القول في دخول الجنب المسجد

                                                                                                                                            قال الشافعي ، رضي الله عنه : " ولا بأس أن يمر الجنب في المسجد مارا ، ولا يقيم فيه ، وتأول قول الله سبحانه ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا قال : وذلك عندي موضع الصلاة " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال .

                                                                                                                                            الجنب ممنوع من المقام في المسجد ، ويجوز له الاجتياز فيه مارا ، وبه قال من الصحابة جابر ، ومن التابعين ابن المسيب ، والحسن ، ومن الفقهاء مالك .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : لا يجوز للجنب دخول المسجد لا مقيما ، ولا مارا تعلقا برواية عائشة ، رضي الله عنها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا أحل المسجد لا لجنب ، ولا لحائض قال : ولأن كل من لا يجوز له اللبث في المسجد لا يجوز له الاجتياز فيه كالحائض ، ومن على رجله نجاسة ، ولأنه جنب حل مسجدا فوجب أن يمنع منه .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا [ ص: 266 ] ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا [ النساء : 43 ] . يعني : بالصلاة موضع الصلاة ، لأنه يسمى صلاة . قال الله تعالى : لهدمت صوامع وبيع وصلوات [ الحج : 40 ] . والصلاة لا تهدم وإنما يهدم مكانها ، وإن كان الاسم واقعا عليه كان النهي مصروفا إليه بدليل قوله سبحانه في سياق الآية : إلا عابري سبيل [ النساء : 43 ] ، والعبور على فعل الصلاة لا يصح ، وإنما يصح العبور على مكانها فصار تقدير الآية : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى [ النساء : 43 ] ولا موضع الصلاة وأنتم جنب إلا عابري سبيل فاستثنى الاجتياز من جملة النهي ، وهذا التأويل قد روي عن علي - عليه السلام - وابن عباس ، رضي الله عنهما ، فإن قيل : يحتمل قوله تعالى : ولا جنبا إلا عابري سبيل [ النساء : 43 ] . مسافرا عادما للماء فيتيمم ، ويصلي ، فيحمل أول الآية على الحقيقة وآخرها على الائتمار ، وأنتم حملتم آخر الآية على الحقيقة ، وأولها على المجاز فيستوي التأويلان ، ويتقابلا ، وكان هذا التأويل أشبه بالحال ، وهو أيضا مروي عن علي - عليه السلام - وابن عباس ، رضي الله عنهما ، قلنا : إذا تقابل التأويلان على ما ذكرتم ، واحتيج إلى الترجيح ، فتأويلنا أولى من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه إذا حملوا إضمار الصلاة على فعلها لم يستفيدوا بالآية إلا إباحة الصلاة للجنب المتيمم ، وإباحة الصلاة للجنب إذا تيمم مستفاد بآية أخرى ، وحمل الآيتين على حكمين مختلفين أولى من حملهما على حكم واحد .

                                                                                                                                            والثاني : أن الاستثناء يكون من جنس المستثنى منه ، فلما كان المراد بقوله تعالى : ولا جنبا الجنب الذي لم يستبح فعل الصلاة بالتيمم وهو المستثنى منه ، ويجب أن يكون قوله تعالى : إلا عابري سبيل [ النساء : 43 ] المراد به : جنبا لم يستبح فعل الصلاة بالتيمم ، لأنه الاستثناء ، فكان تأويلنا أولى بهذين الوجهين من الترجيح .

                                                                                                                                            فإن قيل : لا يصح أن يكون المراد بالآية موضع الصلاة بدلالة قوله تعالى : حتى تعلموا ما تقولون [ النساء : 43 ] وهذا مما لا يوصف به المجتاز ، وإنما يوصف به المصلي قيل : قد يوصف به المجتاز بموضع الصلاة ، لأنه إذا سكر لم يؤمن منه تنجيس المسجد إذا دخله فنهى عنه كما قال صلى الله عليه وسلم : جنبوا مساجدكم أطفالكم ومحاريبكم لأنهم يرسلون البول بغير اختيارهم كالسكران الذي ربما نجس المسجد بغير قصده .

                                                                                                                                            ثم الدليل في المسألة من طريق المعنى : هو أنه مكلف آمن منه تنجيس المسجد فجاز له العبور فيه كالمحدث ، وهذا خير قياس في المسألة .

                                                                                                                                            وقولنا : مكلف ، احتراز من الصغار ، والمجانين .

                                                                                                                                            وقولنا : آمن منه تنجيس المسجد احترازا من الحائض ، وصاحب النجاسة فأما تعلقهم [ ص: 267 ] بالحديث فضعيف ، لأن راويه ابن خليفة ، عن جسرة ، عن عائشة ، رضي الله عنها والأفلت بن خليفة ضعيف متروك ، على أنه إن صح كان محمولا على المقام واللبث .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الحائض ، وصاحب النجاسة فمنتقض بمن احتلم في المسجد يجوز له الاجتياز فيه إجماعا ، ثم المعنى فيه : ما يخاف على المسجد التي هي من الجنب مأمونة .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على المقيم فغير صحيح من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : إن أمر الاجتياز أخف حكما من أمر المقام بدليل المحتلم في المسجد فلم يصح الجمع بينهما ، ورد الأخف منهما إلى الأصل .

                                                                                                                                            والثاني : أن اللبث في المسجد إنما أريد به القربة ، والجنب لا تصح منه أفعال القرب في المسجد : لأنه لا يقدر على القراءة والصلاة ، وإنما يمكنه الذكر في نفسه ، وذلك ممكن في غير المسجد ، فمن أجل هذا لم يبح له المقام فيه ، والعبور في المسجد نصا يكون لغرض ، أو لحاجة ، والجنب فيهما كالمحدث فاستويا في حكم الاجتياز .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية