الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " ومن أحرم في مسجد ، أو غيره ، ثم جاء الإمام فتقدم بجماعة فأحب إلي أن يكمل ركعتين ، ويسلم يكونان له نافلة ، ويبتدئ الصلاة معه ، وكرهت له أن يفتتحها صلاة انفراد ، ثم يجعلها صلاة جماعة ، وهذا يخالف صلاة الذين افتتح بهم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ، ثم ذكر ، فانصرف ، فاغتسل ، ثم رجع ، فأمهم لأنهم افتتحوا الصلاة جماعة ، وقال في القديم : قال قائل : يدخل مع الإمام ويعتد بما مضى . ( قال المزني ) : هذا عندي على أصله أقيس لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في صلاة فلم يضرهم وصح إحرامهم ولا إمام لهم ، ثم ابتدأ بهم وقد سبقوه بالإحرام وكذلك سبقه أبو بكر ببعض الصلاة ، ثم جاء فأحرم ، وائتم به أبو بكر ، وهكذا القول بهذين الحديثين وهو القياس عندي على فعله صلى الله عليه وسلم " .

                                                                                                                                            [ ص: 337 ] قال الماوردي : وهذا كما قال : إذا أحرم الرجل منفردا بفرض وقته من ظهر ، أو عصر في مسجد ، أو غيره ، ثم دخل الإمام فأنشأ الإحرام بتلك الصلاة جماعة ، فيختار لهذا المنفرد أن يتم صلاته ركعتين ويسلم ، يكونان له نافلة ، ويبتدئ الإحرام بتلك الصلاة خلف الإمام ليؤدي فرضه في جماعة ، وإن قطع صلاته ، وابتدأ الإحرام خلف الإمام جاز ، وقد بطل حكم ما ابتدأه منفردا ، وإن بنى على صلاته منفردا ، ولم يتبع الإمام جاز ، وإن تبع الإمام بإحرامه المتقدم وعلق صلاته بصلاته فقد أساء ، وفي بطلان صلاته قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : قاله في القديم ، والإمام صلاته باطلة .

                                                                                                                                            والقول الثاني : هو الذي نقله المزني ويقتضيه مذهبه في الجديد لما علل به في القديم أن صلاته جائزة ، لأنه قال في القديم : ومن أجاز الصلاة بإمامين أجاز هذا ، ومذهبه في الجديد جواز الصلاة بإمامين ، وبه قال أبو حنيفة .

                                                                                                                                            ومن أصحابنا من خرج في صلاته قولا ثالثا ، إن كان قد سبقه بقدر الإحرام فصلاته جائزة ، وإن كان قد سبقه بقدر ركعة فصلاته باطلة ، ومنهم من أنكر هذا القول ، وجعل المسألة على قولين في الموضعين .

                                                                                                                                            فإذا قيل ببطلان صلاته ، فوجهه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا فأمر أن يكون تكبير المأموم عقيب تكبير الإمام ، فوجب إذا سبقه بالتكبير أن تبطل صلاته لمخالفة أمره صلى الله عليه وسلم ، ولأنه عقد صلاته قبل صلاة الإمام ، فوجب أن لا يجوز له الائتمام فيها بالإمام . أصله ما نص عليه الشافعي فيمن وقف خلف الإمام ليحرم معه فسبق إمامه بالإحرام نص الشافعي على بطلانه كذلك في مسألتنا لعلة ما ذكرنا ، ولأن المأموم يلزمه اتباع إمامه في موقفه وأفعاله ، ثم تقرر أنه إن تقدم إمامه في موقف الصلاة لم يجز ، فكذلك إذا تقدمه في أفعالها .

                                                                                                                                            وإذا قيل بصحة صلاته في القول الثاني ، فوجهه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بأصحابه ، ثم ذكر أنه جنب ، فقال لهم : " كونوا كما أنتم " ودخل ، واغتسل ، وخرج ، ورأسه يقطر ماء ، واستأنف الإحرام وبنى القوم على إحرامهم ، فلما سبقوه بالإحرام ولم يأمرهم باستئنافه ، وقد خرجوا بالجنابة من إمامته دل على صحة صلاة المأموم إذا سبق الإمام ببعض صلاته ، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر ، رضي الله عنه ، على الصلاة ، فأحرم بهم ، ثم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة فتقدم ، وتأخرأبو بكر ، رضي الله عنه ، وصلى الناس خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد سبقوه بالإحرام ، ولأن صلاة الجماعة لا تنعقد إلا بإمام ومأموم فلما جاز للإمام أن يفتتح صلاة انفراد ثم يأتم [ ص: 338 ] به رجل فتصير جماعة ، جاز للمأموم أن يفتتح الصلاة منفردا ، ثم يأتم برجل فتصير صلاة جماعة .

                                                                                                                                            وتحريره قياسا أن نقول : إنها صلاة افتتحها منفردا فجاز أن تصير صلاة جماعة كالإمام ، ولأن الصلاة طرفان ابتداء وانتهاء ، فلما جاز أن يكون في ابتدائها جامعا ، وفي انتهائها منفردا إذا أحدث إمامه أو مات ، جاز أن يكون في ابتدائها منفردا وفي انتهائها جامعا ، ولأن صلاة الانفراد أنقص من صلاة الجماعة ، وبناء الأفضل على الأنقص جائز فيما يصح إتيانه منفردا ، كبناء صلاة المسافر على صلاة المقيم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية