الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وأي كفر ارتد إليه مما يظهر أو يسر من الزندقة ، ثم تاب لم يقتل " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح .

                                                                                                                                            لا يخلو حال الكفر إذا ارتد إليه المسلم من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يتظاهر به أهله كاليهودية والنصرانية .

                                                                                                                                            أو يسرونه كالزندقة والنفاق .

                                                                                                                                            فإن كان مما يتظاهر به أهله ، قبلت توبته منه إذا ارتد إليه ، سواء ولد على الإسلام أو كان كافرا وأسلم .

                                                                                                                                            وحكى الشافعي عن بعض أهل المدينة - وأحسبه مالكا - أن المولود على الإسلام لا تقبل توبته إذا ارتد : لأنه لم يجر عليه حكم الكفر بحال ، فكان أغلظ حكما ممن جرى عليه حكم الكفر في بعض الأحوال ، وهذا فاسد .

                                                                                                                                            ولكنه لو وقع بينهما فرق - أولى : لأن توبة المولود على الإسلام أقوى : لأنه قد [ ص: 152 ] ألف الإسلام ، وتوبة المولود على الكفر أضعف : لأنه قد ألف الكفر ، فلما فسد هذا ، كان عكسه أفسد .

                                                                                                                                            ودلائل هذا تأتي فيما يليه .

                                                                                                                                            وإن كان الكفر مما يسره أهله كالزندقة : قبلت توبته أيضا عند الشافعي ، تسوية بين ردة كل مسلم ، وبين الردة إلى كل كفر . وقال مالك : لا تقبل التوبة من الزنديق ، إلا أن يتوب قبل العلم به والقدرة عليه .

                                                                                                                                            ففرق بين بعض الكفر وبعضه في الردة ، كما فرق في الأول - إن كان قائلا به - بين بعض المسلمين وبعضهم في الردة .

                                                                                                                                            والزنديق عنده : من أظهر الإسلام وأسر الكفر .

                                                                                                                                            ولأبي حنيفة فيه روايتان :

                                                                                                                                            إحداهما : كقولنا .

                                                                                                                                            والأخرى : كقول مالك .

                                                                                                                                            احتجاجا بقول الله تعالى : إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم [ آل عمران : 90 ] .

                                                                                                                                            ولأن الزنديق يتظاهر بالإسلام ويسر الكفر ، وهو بعد التوبة هكذا ، فصار كما قبلها ، فلم تؤثر فيه التوبة مما لم يكن ، فوجب أن يكون الحكم فيهما على سواء .

                                                                                                                                            قال : ولأن الزندقة أعظم فسادا في الأرض من الحرابة : لجمعها بين فساد الدين والدنيا ، فلما لم تقبل توبة المحاربين بعد القدرة ، فأولى أن لا تقبل توبة الزنديق بعد القدرة .

                                                                                                                                            قال : ولأن الظاهر من توبة الزنديق أنه يستدفع بها القتل ، كما كان الظاهر من توبة المحارب استدفاع القتل بها ، فوجب أن تحمل توبته على الظاهر من حالها في دفع القتل بها ، كما حملت توبة المحارب على الظاهر من حالها .

                                                                                                                                            ودليلنا : قول الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا [ النساء : 94 ] ، [ ص: 153 ] وقرأ أبو جعفر : لست مؤمنا بفتح الميم ، من الأمان .

                                                                                                                                            وقراءة الجمهور بالكسر من الإيمان .

                                                                                                                                            وفيها على كلا القراءتين دليل لما حكاه السدي عن سبب نزولها :

                                                                                                                                            أن رجلا يقال له : مرداس بن عمر الفدكي كانت له غنيمات ، لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم : السلام عليكم ، لا إله إلا الله محمد رسول الله . فبدر إليه أسامة بن زيد فقتله ، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال له : لم قتلته وقد أسلم ؟

                                                                                                                                            قال : إنما قالها متعوذا .

                                                                                                                                            قاله : هلا شققت عن قلبه .

                                                                                                                                            ثم حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله ، ورد عليهم غنمه
                                                                                                                                            .

                                                                                                                                            وروى عطاء بن يزيد الليثي ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يدر ما ساره ، حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أليس يشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال : بلى ، ولا شهادة له .

                                                                                                                                            قال : أليس يصلي ؟

                                                                                                                                            قال : بلى ، ولا صلاة له .

                                                                                                                                            فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أولئك الذين نهاني الله عنهم
                                                                                                                                            .

                                                                                                                                            وروى عبيد الله بن عدي بن الخيار ، أن المقداد بن عمرو الكندي قال : يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني ، فضرب إحدى يدي فقطعها ، ثم لاذ مني بشجرة ، فقال : أسلمت لله ، أقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟

                                                                                                                                            قال : لا تقتله ، فإن قتلته فإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته ، وهو بمنزلتك قبل أن تقتله
                                                                                                                                            .

                                                                                                                                            فدلت الآية والخبران على الأخذ بالظاهر دون السرائر ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر [ ص: 154 ] ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبل من المنافقين ظاهر إسلامهم ، وإن تحقق باطن كفرهم ، بما أطلعه الله تعالى عليه من سرائرهم في قوله تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة [ المنافقون : 1 - 2 ] . وقرئ : إيمانهم بكسر الهمزة ، من الإيمان ، والأول من اليمين .

                                                                                                                                            وقال تعالى : ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون [ التوبة : 56 ] .

                                                                                                                                            فلم يؤاخذهم بما أطلعه الله تعالى عليه من سرائرهم التي تحقق بها كفرهم ، واعتبر ما تظاهروا به من الإسلام وإن تحقق فيه كذبهم ، فوجب أن يكون أمثالهم من الزنادقة ملحقين بهم وداخلين في حكمهم .

                                                                                                                                            فإن قيل : إنما كف عنهم : لأنه لم يعرفهم بأعيانهم ، ولو عرفهم لما كف عنهم .

                                                                                                                                            قيل : قد كانوا أشهر من أن يخفوا ، هذا عبد الله بن أبي ابن سلول وهو رأس المنافقين ، قد تظاهر بالنفاق وأبدى معتقده في مواضع منها :

                                                                                                                                            قوله تعالى : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا [ الأحزاب : 12 ] .

                                                                                                                                            وقوله في غزوة تبوك : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل [ المنافقون : 18 ] .

                                                                                                                                            فأخبر الله تعالى بذلك عنه ، فلما رجع إليها من الغزاة جرد ابنه عليه سيفه ، وقال : والله لئن لم تقل إنك الأذل ورسول الله الأعز ، لأضربنك بسيفي هذا . فقالها
                                                                                                                                            .

                                                                                                                                            ولأن إقراره بالزندقة أقوى من قيام البينة بها عليه ، فلما قبلت توبته إذا أقر بها ، كان أولى أن تقبل في قيام البينة بها .

                                                                                                                                            ولأنه لو جاز أن يختلف حكم التوبة في جهر الكفر وسره ، لكان قبول توبة المساتر أولى من قبول توبة المجاهر : لأن الجهر به يدل على قوة معتقده ، والاستسرار به يدل على ضعف معتقده ، فلما بطل هذا كان علته أبطل ، ولأنها توبة من كفر ، فوجب أن تقبل كالجهر .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قوله : ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم [ آل عمران : 190 ] . فهو أنه قد تعارض فيها ما يتنافى اجتماعهما : لأن من ازداد كفرا لم يتب ، ومن [ ص: 155 ] تاب لم يزدد كفرا ، وإذا تنافى ظاهرهما صار تأويلها محمولا على تقدم التوبة على ما حدث بعدها من زيادة الكفر ، فيحبط حادث الكفر سابق التوبة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قوله : إنه بالتوبة مظهر للإسلام مستبطن للكفر ، وهكذا هو قبلها .

                                                                                                                                            فهو أننا ما كلفنا منه إلا الظاهر من حاله ، وهو في الباطن موكول إلى ربه ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحاسبوا العبد حساب الرب .

                                                                                                                                            وقد يجوز أن تؤثر التوبة في باطنه كتأثيرها في ظاهره .

                                                                                                                                            وأما الجمع بينه وبين المحارب فلا يصح : لافتراقهما في معنى الحكم : لأن الحرابة يقتل فيها بظاهر فعله ، فلم تؤثر التوبة في رفعه ، والردة يقتل فيها بظاهر قوله الدال على معتقده ، فجاز أن يرفعها ما جانسها من القول في توبته ، ويحمل ذلك على زوال معتقده .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قوله : إن الظاهر منها استدفاع القتل .

                                                                                                                                            فهو أن هذا الظاهر لا يمنع من قبول التوبة في المرتد ، كما لا يمنع إسلام الحربي إذا قدم للقتل من قبول إسلامه ، والكف عن قتله ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية