الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي ، رحمه الله تعالى : " وأكره ترك القصر رغبة عن السنة ، فأما أنا فلا أحب أن أقصر في أقل من ثلاثة أيام احتياطا على نفسي ، وإن ترك القصر مباح لو قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتم .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال .

                                                                                                                                            والمسافر عندنا بالخيار بين قصر الصلاة في سفره ، وبين إتمامها أربعا كالحضر فيكون ما أتمه من سفره صلاة حضر لا صلاة سفر هذا مذهبنا ، وبه قال من الصحابة عثمان بن عفان ، وسعد بن أبي وقاص ، وأنس بن مالك ، ومن التابعين أبو قلابة ، ومن الفقهاء أبو ثور .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة ، ومالك : القصر في السفر واجب ، وبه قال من الصحابة أبو بكر ، وعمر ، وابن عمر ، وابن عباس - رضي الله عنهم - فإن أتم الصلاة أفسدها وأجمعوا : أنه لو صلى خلف مقيم أتم ، ولم يقصر ، واستدلوا برواية مجاهد ، عن ابن عباس قال : فرض الله سبحانه على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، فأخبر أن فرض السفر ركعتان لا غير .

                                                                                                                                            وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : فرض الله الصلاة ركعتان فزيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر .

                                                                                                                                            وروي عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أنه قال : صلاة الفطر ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان ، وصلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم .

                                                                                                                                            وروي أن أبا بكر ، رضي الله عنه ، خطب الناس فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : للظاعن ركعتان وللمقيم أربع .

                                                                                                                                            وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : خير عباد الله الذين سافروا قصروا الصلاة وأفطروا .

                                                                                                                                            [ ص: 363 ] فاقتضى أن يكون شرهم من أتم الصلاة ولم يفطر .

                                                                                                                                            وهذا وصف لا يستحقه من ترك المباح وإنما يستحقه من ترك الواجب .

                                                                                                                                            قالوا : ولأنه إجماع الصحابة ، رضي الله عنهم ، وذلك أن عثمان ، رضي الله عنه ، أتم الصلاة بمنى فأنكر عليه ابن مسعود والصحابة فاعتذر إليهم ، وقال : قد تأهلت بمكة .

                                                                                                                                            فلما تبين المعنى الذي أتم لأجله وهو أنه كان مقيما علم أن القصر واجب لاعتذاره ، قالوا : ولأنها صلاة ردت إلى ركعتين فوجب أن لا يجوز الزيادة عليها كالجمعة ، قالوا : ولأنه لا يخلو أن تكون الزيادة على الركعتين واجبة ، أو غير واجبة : فبطل أن تكون واجبة لأنه لو تركها جاز والواجب لا يسقط إلى غير واجب ، وإذا قيل إنها غير واجبة لم يجز فعلها كالمصلي الصبح أربعا وهذا خطأ .

                                                                                                                                            ودليلنا قوله تعالى : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ النساء : 101 ] فأخبر تعالى بوضع الجناح عنا في القصر ، والجناح الإثم ، وهذا من صفة المباح لا الواجب ، فإن قيل : فقد قال الله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ البقرة : 158 ] والسعي واجب .

                                                                                                                                            قيل : الجواب عنه من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الآية نزلت على سبب وهو أن الجاهلية كانت لها على الصفا صنم اسمه أساف ، وعلى المروة صنم اسمه نائلة ، فكانت تطوف حول الصفا والمروة تقربا إلى الصنمين ، فظن المسلمون أن السعي حول الصفا والمروة غير جائز ، فأخبر الله سبحانه بإباحته ، وأنه وإن شابه أفعال الجاهلية فإنه مخالف له : لأنه لله تعالى وذلك لغير الله تعالى ، فكان السعي الذي وردت فيه الآية مباحا ، وغير واجب لأن السعي الواجب بينهما ، والآية واردة بالسعي بهما .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن الآية وإن تضمنت السعي بين الصفا والمروة فالمراد بها المباح لا الواجب : لأنها نزلت أول الإسلام قبل وجوب الحج والعمرة ، ولم يكن واجبا وإن ما كان مباحا ألا ترى إلى ما روي عن عروة أنه قال : إني لا أرى أن لا جناح علي إذا لم أطف بهما ، فقالت عائشة رضي الله عنها : بئس ما قلت إنما كان ذلك في أول الإسلام ، ثم سنه النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك .

                                                                                                                                            فإن أراد به قصر هيئات الصلاة وتحقيق أفعالها لا تقصير أعداد ركعاتها قيل هذا [ ص: 364 ] تأويل قبيح يدفعه ظاهر الآية ، ويبطله إجماع الصحابة لأن يعلى بن أمية قال لعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : أباح الله تعالى القصر في الخوف ، فما بالنا نقصر في غير الخوف ؟ فقال عمر ، رضي الله عنه : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " القصر صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته فقد فهمت الصحابة ، رضي الله عنهم من الآية مع ظهوره على أن قصر الهيئات لا تختص بالخوف ، أو السفر المشروط في الآية ، فعلم أن المراد به قصر الأعداد ، ومن الدلالة على ما ذكرنا ما رواه عطاء ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره يتم ، ويقصر ، ويصوم ، ويفطر .

                                                                                                                                            وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرفنا قال لي : يا عائشة ، ماذا صنعت في سفرك ؟ قلت : أتممت ما قصرت ، وصمت ما أفطرت فقال : أحسنت .

                                                                                                                                            فدل ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم على أن القصر ، والفطر رخصة .

                                                                                                                                            وروي عن أنس بن مالك قال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمنا المتم ، ومنا المقصر ، ومنا الصائم ، ومنا المفطر ، فلم يعب المتم على المقصر ، ولا المقصر على المتم ، ولا الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم ، ولأنه أتى بغرض الإقامة فيما يصح فعله منفردا فوجب أن يجزى به .

                                                                                                                                            أصله : التمام في الصلاة خلف المقيم .

                                                                                                                                            ولأنه عذر بغير فرض الصلاة ، فوجب أن لا يمنع من الإتيان بغرض الرفاهية كالمرض ، ولأنها صلاة مفروضة فصح أن تؤدى في السفر فرض الحضر .

                                                                                                                                            أصله : الصلوات التي لا تقصر وهي المغرب ، والصبح . ولا يدخل عليها صلاة الجمعة لأن المسافر لو صلاها في سفر لم تجزه عن فرضه ، ولأن الأعذار المؤثرة في الصلاة تخفيفا إنما تؤثر فيها رخصة لا وجوبا كالمرض ، ولأن السفر إذا اقتضى رفقا في الصلاة كان ذلك رخصة لا عزيمة كالجمع بين الصلاتين : ولأن من جاز منه القصر صح منه الإتمام كالمسافر إذا صلى خلف مقيم ، ولأن كل ركعات استوفاها في فرضه خلف الإمام وجب إذا انفرد أن تكون تلك الركعات فرضه كالمقيم .

                                                                                                                                            [ ص: 365 ] فأما الجواب عن استدلالهم بحديث أبي بكر ، وعمر ، وابن عباس ، رضي الله عنهم ، ففيه جوابان .

                                                                                                                                            أحدهما : أن ظاهر الأحاديث يقتضي جواز صلاة المسافر ركعتين ، وهذا مسلم بإجماع ، وإنما تقول : إن المسافر بالخيار بين أن يأتي بصلاة السفر ركعتين ، أو بصلاة الحضر أربعا .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أن المراد بها : ما لا يجوز النقصان منه ، وهو ركعتان في السفر ، وأربع في الحضر .

                                                                                                                                            وأما احتجاجهم بما رواه من قوله : خير عباد الله الذين إذا سافروا أفطروا وقصروا .

                                                                                                                                            فهذا حديث موقوف على سعيد بن المسيب فلم يلزم ، على أنه لو كان صحيحا لم يكن فيه حجة لأنه جمع بين الفطر ، والقصر ، ثم لو صام جاز ، كذلك إذا أتم .

                                                                                                                                            وأما ما ذكره من الإجماع فخطأ كيف يكون إجماعا وعائشة رضي الله عنها ، وسعد بن أبي وقاص ، وأنس ، وابن مسعود رضي الله عنهم خالفوا .

                                                                                                                                            أما عائشة ، رضي الله عنها ، فإنها أتمت ، وأما أنس فأخبر أن من قصر لم يعب على من أتم .

                                                                                                                                            وأما سعد فلم يكن يقصر في سفره .

                                                                                                                                            وأما ابن مسعود فروى الشافعي أنه عاب على عثمان ، رضي الله عنه الإتمام بمنى ثم صلى فأتم . فقيل له : إنك تعيب على عثمان ، رضي الله عنه الإتمام ، وتتم ، فقال : الخلاف شر ، فعلم أن إنكارهم عليه ترك للأفضل لا الواجب .

                                                                                                                                            لأن الصحابي لا يتبع إمامه فيما لا يجوز فعله .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الجمعة . فالمعنى فيه : أنه لما لم تجز الزيادة فيها بالإتمام وجب الاقتصار على ركعتين ، ولما جاز للمسافر الزيادة فيها بالإتمام لم يجب الاقتصار على ركعتين .

                                                                                                                                            وأما قولهم إن الزيادة فيها على ركعتين غير واجبة ، فاقتضى بطلان الصلاة بها .

                                                                                                                                            فالجواب : أنا لا نسلم أن الزيادة غير واجبة لأنها لو كانت غير واجبة لم تجب عليه الإتمام . ألا ترى أن المصلي الصبح خلف المصلي الظهر إذا صلى ركعتين سلم ، ولم يتبع إمامه في الزيادة لأنها غير واجبة .

                                                                                                                                            ولما كان المسافر يجب عليه اتباع إمامه المقيم في الزيادة على ركعتين ، علم أنها واجبة .

                                                                                                                                            [ ص: 366 ] فإن قيل : إذا كانت الزيادة عليه واجبة فلم جوزتم تركها إذا قصر .

                                                                                                                                            قلنا : نحن على ما جوزنا له ترك واجب ، وإنما قلنا أنت مخير بين أن تأتي بصلاة حضر أربع ركعات ، وبين أن تأتي بصلاة سفر ركعتين ، وأيهما فعل فقد فعل الواجب ، وأجزاه عن الآخر ، كما تقول في كفارة اليمين ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية