الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وتقسم الغنيمة في دار الحرب ، قسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث غنمها وهي دار حرب بني المصطلق ، وحنين ، وأما ما احتج به أبو يوسف بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم غنائم بدر بعد قدومه المدينة وقوله : الدليل على ذلك أنه أسهم لعثمان وطلحة ولم يشهدا بدرا . فإن كان كما قال فقد خالف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعطي أحدا لم يشهد الوقعة ، ولم يقدم مددا عليهم في دار الحرب ، وليس كما قال ( قال الشافعي ) ما قسم - عليه السلام - غنائم بدر إلا بسير شعب من شعاب الصفراء ، قريب من بدر ، فلما تشاح أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في غنيمتها أنزل الله عز وجل يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم . فقسمها بينهم وهي له تفضلا وأدخل معهم ثمانية أنفار من المهاجرين والأنصار بالمدينة ، وإنما نزلت واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول . بعد بدر ولم نعلمه أسهم لأحد لم يشهد الوقعة بعد نزول الآية ، ومن أعطى من المؤلفة وغيرهم ، فمن ماله أعطاهم لا من الأربعة الأخماس ، وأما ما احتج به من وقعة عبد الله بن جحش ، وابن الحضرمي فذلك قبل بدر ولذلك [ ص: 165 ] كانت وقعتهم في آخر الشهر الحرام فتوقفوا فيما صنعوا حتى نزلت يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه وليس مما خالف فيه الأوزاعي في شيء " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما ذكر ، الأولى بالإمام أن يعجل قسمة الغنيمة في دار الحرب ، إذا لم يخف ضررا ، فإن أخرها إلى دار الإسلام كره له ذلك إلا من عذر .

                                                                                                                                            قال أبو حنيفة : يؤخر قسمها إلى دار الإسلام ، ولا يقسمها في دار الحرب .

                                                                                                                                            وقال مالك : يعجل قسمة الأموال في دار الحرب ، ويؤخر قسم السبي إلى دار الإسلام ، واستدل من منع قسمها في دار الحرب برواية مقسم ، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم غنائم بدر بعد مقدمه إلى المدينة ، وأعطى عثمان وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف منها : ولأن عبد الله بن جحش حين غنم ابن الحضرمي بعد قتله لم يقسم غنيمته حتى قدم بها المدينة ، وكانت أول مال غنمه المسلمون .

                                                                                                                                            قالوا : وقد روى مكحول قال : ما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنيمته قط في دار الحرب ، ولا يقول مكحول هذا قطعا وهو تابعي إلا عن اتفاق الصحابة ، قالوا : ولأنها في دار الحرب تحت أيديهم واستدامة قبضتهم ، فوجب أن يمنعوا من قسمها كما منعوا من بيع ما لم يقبض ، ولأنها في دار الحرب معرضة للاسترجاع : فلم يجز قسمها كما لو كانت الحرب قائمة .

                                                                                                                                            ودليلنا ما رواه الشافعي بإسناده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل ابن مسعود سيف أبي جهل ببدر ، والنفل من القسم .

                                                                                                                                            وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر في ثلاثمائة وخمسة عشر رجلا حفاة عراة جياعا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم إنهم حفاة فاحملهم ، وعراة فاكسهم ، وجياع فأشبعهم ، فانقلب القوم حيث انقلبوا ومع كل واحد منهم الحمل والحملان ، وقد كساهم ، وأطعمهم ، وانقلابهم من بدر بهذا يكون بعد القسمة ، فدل على أنه قسمها ببدر .

                                                                                                                                            وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم غنائم بني المصطلق يوم المريسيع على مياههم ، ووقفت جويرية في سهم ثابت بن قيس بن شماس فاشتراها منه ، وأعتقها وتزوجها ، وقسم غنائم خيبر لها ، وعامل عليها أهلها ، وقسم غنائم حنين مع السبي بأوطاس ، وهو وادي حنين ، وأعطى منها المؤلفة قلوبهم ، وقد نقل أهل السير والمغازي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما غنم غنيمة قط إلا قسمها حيث غنمها ، ولأن كل موضع صحت فيه الغنيمة لم يمنع فيه من القسمة كدار الإسلام ، ولأن كل غنيمة صح قسمها في دار الإسلام لم تكره قسمتها في دار الحرب كالثياب ، فإن أبا حنيفة وافق على تعجيل قسمتها في دار الحرب ، ولأن في تعجيل قسمتها فى دار الحرب تعجيل الحقوق إلى [ ص: 166 ] مستحقيها ، فكان أولى من تأخيرها ، ولأن حفظ ما قسم أسهل والمؤونة في نقله أخف فكان أولى .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن حديث ابن عباس : أنه قسم غنائم بدر بالمدينة فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنا روينا خلافه ، فتعارضت الروايتان .

                                                                                                                                            والثاني : أن المهاجرين والأنصار تشاجروا فيها ، فأخرها لتشاجرهم ، حتى جعلها الله تعالى لرسوله بقوله تعالى : يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم [ الأنفال : 1 ] . فحينئذ قسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأيه ، وأدخل فيهم ثمانية لم يشهدوا بدرا ، ثلاثة من المهاجرين ، وخمسة من الأنصار .

                                                                                                                                            وأما حديث مكحول مرسل ، والنقل المشهور بخلافه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن تأخير عبد الله بن جحش غنيمة ابن الحضرمي إلى المدينة ، فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها كانت في الأشهر الحرم فشكوا في استباحتها ، فأخروها حتى قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عنها ، فأنزل الله تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير [ البقرة : 217 ] الآية .

                                                                                                                                            والثاني : أن عبد الله بن جحش لم يعلم مستحق الغنيمة وكيف تقسم ، فأخرها حتى استعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على بيع ما لم يقبض ، فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن ما لم يقبض من المبيعات مضمون على بائعه ، فمنع من بيعه قبل قبضه ، وهذا غير مضمون فافترقا .

                                                                                                                                            والثاني : أن يد الغانمين أثبت : لأن يد المشركين عليه بحكم الدار ، ويد الغانمين عليه بالاستيلاء والمشاهدة ، فصار كرجل في دار رجل ، وفي يده ثوب ، فادعاه صاحب الدار : لأن صاحب اليد أحق من صاحب الدار : لأن صاحب الدار يده من طريق الحكم ، ويد القابض من طريق المشاهدة فكانت أقوى وكان بالملك أحق .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قولهم إنها معرضة للاسترجاع ، فهو أنها كذلك فيما اتصل من دار الإسلام بدار الحرب ، ولا يمنع ذلك من جواز قسمتها ، فكذلك في دار الحرب ، فأما مع بقاء دار الحرب فلم يستقر الظفر فيستقر عليها ملك للغانمين أو يد .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية