الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 132 ] كتاب الأطعمة

                                                                                                                                            باب ما يحرم من جهة ما لا تأكل العرب من معاني الرسالة ومعان

                                                                                                                                            أعرف له وغير ذلك

                                                                                                                                            قال الشافعي رحمه الله : قال الله جل ثناؤه : يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وقال في النبي - صلى الله عليه وسلم - : ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث وإنما خوطب بذلك العرب الذين يسألون عن هذا ، ونزلت فيهم الأحكام ، وكانوا يتركون من خبيث المآكل ما لا يترك غيرهم .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن المأكول ضربان : حيوان ونبات .

                                                                                                                                            فأما النبات فيأتي .

                                                                                                                                            وأما الحيوان فضربان : بري وبحري ، فأما البحري فقد مضى ، وأما البري فضربان : دواب وطائر ، وهذا الباب يشتمل على ما حل منها وحرم ، وهو على ثلاثة أضرب :

                                                                                                                                            أحدها : ما ورد النص بتحليله في كتاب أو سنة ، فهو حلال .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : ما ورد النص بتحريمه في كتاب أو سنة فهو حرام .

                                                                                                                                            والضرب الثالث : ما كان غفلا لم يرد فيه نص بتحليل ولا تحريم ، فقد جعل الله تعالى له أصلا يعرف به حلاله وحرامه ، في آياتين من كتابه وسنة عن رسوله .

                                                                                                                                            فأما الآيتان فإحداهما قوله تعالى : يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات [ المائدة : 4 ] . فجعل الطيب حلالا .

                                                                                                                                            والثانية قوله تعالى : ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث [ الأعراف : 157 ] . فجعل الطيب حلالا ، والخبث حراما ، فكانت هذه الآية أعم من الأولى ، لأن الأولى مقصورة على إحلال الطيبات ، وهذه تشتمل على إحلال الطيبات وتحريم الخبائث ، فجعل الطيب حلالا ، والخبث حراما ، وهذا خطاب من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ، يدل على أن الناس سألوه عما يحل لهم ويحرم عليهم ، فأمره أن يخبرهم أنه قد أحل لهم الطيبات ، وحرم عليهم الخبائث ، ولا يخلو مراده بالطيب والخبيث من [ ص: 133 ] ثلاثة أمور : إما أن يريد به الحلال والحرام ، كما قال : أنفقوا من طيبات ما كسبتم يعني من الحلال ، ولا يجوز أن يكون هذا مرادا ، لأنهم سألوه عما يحل ويحرم ، فلا يصح أن يقول لهم : الحلال الحلال ، والحرام الحرام ، لأنه لا يكون فيه بيان للحلال ولا للحرام ، وإما أن يريد به الطاهر والنجس ، كما قال تعالى : فتيمموا صعيدا طيبا [ النساء : 43 ] . أي : طاهرا ، ولا يجوز أن يكون هذا مرادا ، لأن الطاهر والنجس معروف بشرع آخر ، فلا يكون في هذا بيان شرعي يعني عن غيره .

                                                                                                                                            وإما أن يريد به ما كان مستطاب الأكل في التحليل ، ومستخبث الأكل في التحريم ، وهذا هو المراد إذا بطل ما سواه ، لأنهم يتوصلون بما استطابوه إلى العلم بتحليله ، وبما استخبثوه إلى العلم بتحريمه ، وإذا كان هذا أصلا وصار المستطاب حلالا والمستخبث حراما وجب أن يعتبر فيه العرف العام ، ولا يعتبر فيه عرف الواحد من الناس ، لأنه قد يستطيب ما يستخبثه غيره ، فيصير حلالا له وحراما على غيره ، والحلال والحرام ما عم الناس كلهم ، ولذلك اعتبر فيه العرف العام ، ولا يجوز أن يراد به عرف جميع الناس في جميع الأزمنة : لأنه خاطب به بعضهم دون بعض في بعض الأرض ، فاحتيج إلى معرفة من خوطب به من الناس ، ومعرفة ما أريد به من البلاد ، فكان أحق الناس بتوجه الخطاب إليهم العرب لأنهم السائلون المجابون ، وأحق الأرض من بلادهم ، لأنها أوطانهم ، وقد يختلفون فيما يستطيبون ويستخبثون بالضرورة والاختيار ، فيستطيب أهل الضرورة ما استخبثه أهل الاختيار ، فوجب أن يعتبر فيه عرف أهل الاختيار ، دون أهل الضرورة لأنه ليس مع الضرورة عرف معهود ، وهم يختلفون فيها من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : بالغنى والفقر ، فيستطيب الفقير ما يستخبثه الغني .

                                                                                                                                            والثاني : بالبدو والحضر ، فيستطيب البادية ما يستخبثه الحاضرة .

                                                                                                                                            والثالث : بزمان الجدب وزمان الخصب ، فيستطاب في زمان الجدب ما يستخبث في زمان الخصب ، وإذا كان كذلك وجب أن يعتبر فيه أهل الاختيار من جمع الأوصاف الثلاثة ، وهم الأغنياء دون الفقراء ، أو سكان الأمصار والقرى دون البادية ، وفي زمان الخصب دون زمان الجدب ، من العرب دون العجم ، وبلادهم دون غيرها ، فتصير الأوصاف المعينة فيمن يرجع إلى استطابته واستخباثه خمسة :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكونوا عربا .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكونوا في بلادهم .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكونوا من أهل الأمصار والقرى ، دون الفلوات .

                                                                                                                                            والرابع : أن يكونوا أغنياء من أهل السعة .

                                                                                                                                            [ ص: 134 ] والخامس : أن يكونوا في زمان الخصب والسعة .

                                                                                                                                            فإذا تكاملت في قوم استطابوا أكل شيء كان حلالا ما لم يرد فيه نص بتحريمه ، وإن استخبثوا أكل شيء كان حراما ما لم يرد نص بتحليله .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية