الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي ، رضي الله عنه : " ويخطب الإمام قائما خطبتين ، يجلس بينهما جلسة خفيفة ، إلا أن يكون مريضا فيخطب جالسا ولا بأس بالكلام ما لم يخطب " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال . خطبة الجمعة واجبة ، وهي من شرط صحتها ، لا يصح أداء الجمعة إلا بها ، فهو مذهب الفقهاء كافة إلا الحسن البصري فإنه شذ عن الإجماع وقال : إنها ليست واجبة ، لأن الجمعة قد تصح لمن لم يحضر الخطبة ، ولو كانت واجبة لم يصح إدراك الجمعة إلا بها . وهذا خطأ ، ويوضحه إجماع من قبل الحسن وبعده ، وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله [ الجمعة : 9 ] . فكان في هذه الآية دلالة من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن أمره بالسعي إلى ذكر الله يتضمن الخطبة والصلاة ، فاقتضى أن يكون الأمر بها واجبا .

                                                                                                                                            والثاني : أن الذكر مجمل ، يفتقر إلى بيان ، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك : بأن خطب خطبتين ، وصلى ركعتين وأكده بقوله صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي .

                                                                                                                                            وأما قوله : إنها لو كانت واجبة لتعلق إدراك الجمعة بحضورها فغير صحيح ، لأن [ ص: 433 ] الركعتين واجبتان بإجماع ، ثم لا يتعلق إدراك الجمعة بها ، لو أدرك ركعة صحت له الجمعة ، فكذلك الخطبة .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت وجوب الخطبة فوجوبها يتضمن شيئين :

                                                                                                                                            أحدهما : قول يأتي ذكره وتفصيله .

                                                                                                                                            والثاني : فعل وهو ثلاثة أشياء : قيام في الأولى ، وجلسة بعد فراغه منها ، وقيام في الثانية إلى انقضائها ، فإن ترك القيام في الأولى أو في الثانية ، أو ترك الجلسة بينهما ، لم يجز أن يصلي جمعة . قال الشافعي ، رحمه الله : فلو أتى بالقيامين ولم يجلس وسكت لم تجزهم الجمعة .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : لا تفتقر الخطبة إلى ما ذكرنا من القيامين والجلوس ، وكيف ما خطب قائما أو قاعدا أجزأه ، واستدل على أن القيام ليس بواجب : بأنه ذكر للصلاة يتقدمها ، فوجب أن لا يكون من شرطه القيام كالأذان ، واستدل على أن الجلسة ليست بواجبة بأن قال : الخطبة تشتمل على جلستين :

                                                                                                                                            إحداهما : متقدمة والثانية متوسطة ، فلما لم تجب الأولى منهما لم تجب الثانية . وهذا خطأ . ودليلنا : قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما [ الجمعة : 295 ] .

                                                                                                                                            قال الشافعي ، رحمه الله تعالى : " ولم أعلم مخالفا بين أهل العلم أنهم انفضوا عنه صلى الله عليه وسلم في حال قيامه في الخطبة . فاقتضى أن يكون القيام واجبا فيهما ، ليستحقوا الذي بتركه فيه ، وروى نافع عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الخطبتين قائما يفصل بينهما بجلسة .

                                                                                                                                            وروى جابر بن سمرة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ، ثم يجلس ، ثم يقوم فيخطب قائما ، ومن حدثك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب قاعدا فقد كذب ، فوالله لقد صليت معه أكثر من ألفي صلاة ولأن الخطبتين أقيمتا مقام ركعتين ، والقيام من شرط الصلاة ، فوجب أن يكون من شرط الخطبة .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قياسه على الأذان : فالمعنى : أنه لما لم يكن واجبا لم يكن القيام فيه واجبا ، ولما وجبت الخطبة وجب القيام فيها .

                                                                                                                                            وأما جمعه بين الجلسة الأولى والثانية فقد كان ذلك يوجب الأولى دون الثانية ، وأبو [ ص: 434 ] حنيفة يسقط وجوبهما معا ، والصحيح وجوب الثانية دون الأولى ، لأن الأولى ليست من الخطبة ، وإنما هي جلسة استراحة ، والثانية من الخطبة وأزيدت للفصل بين القيام ، فكانت واجبة كالجلسة بين السجدتين .

                                                                                                                                            وقد حكى ابن المنذر أنه لم يقل بمذهب أبي حنيفة غيره ، وحكى الطحاوي أنه لم يقل بمذهب الشافعي ، رحمه الله غيره .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية