الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : يمين الكافر منعقدة يتعلق بها الحنث ، وتجب بها الكفارة كالمسلم سواء حنث في حال كفره أو بعد إسلامه ، لكنه إن كفر في حال كفره كفر بالمال من إطعام أو كسوة أو عتق ، ولم يكفر بالصيام فإن أسلم قبل التكفير جاز أن يكفر بالصيام كالمسلم .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يمين الكافر غير منعقدة ، ولا كفارة عليه إذا حنث ، استدلالا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الإسلام يجب ما قبله فكان على عمومه : ولأن الكفارة لا تصح منه : لافتقارها إلى النية بدليل أنها عبادة تفتقر إلى النية ، فلم تصح من الكافر كالصيام والقيام .

                                                                                                                                            ولأن الإطعام والكسوة حد موجبه التكفير ، فوجب أن لا يصح من الكافر كالصيام .

                                                                                                                                            ولأن من لم يصح منه التكفير بالصيام لم يصح منه التكفير بالمال كالصبي والمجنون .

                                                                                                                                            وإذا ثبت بهذه المعاني الثلاثة أن التكفير لا يصح منه وجب أن لا تنعقد يمينه ولا تجب عليه فيها كفارة لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن موجب اليمين الكفارة ، فإذا لم تصح منه لم تجب عليه كالزكاة .

                                                                                                                                            والثاني : أن من لم يصح تكفيره لم تنعقد يمينه كالصبي والمجنون .

                                                                                                                                            ودليلنا عموم قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته [ ص: 270 ] [ المائدة : 89 ] ، الآية فاقتضى ظاهر العموم استواء المسلم والكافر في وجوبه .

                                                                                                                                            ومن القياس : أن كل من صحت يمينه في الدعاوى انعقدت من غير الدعاوى كالمسلم : ولأن كل يمين صحت من المسلم صحت من الكافر كاليمين بالطلاق والعتاق : ولأن كل من صحت يمينه بالطلاق والعتاق صحت يمينه بالله كالمسلم : ولأن كل من صحت يمينه بالله في الإيلاء صحت يمينه بالله في غير الإيلاء كالمسلم .

                                                                                                                                            فإن قيل : إنما صحت يمينه في الإيلاء وبالطلاق والعتاق : لأنه يصح منه موجبه من الطلاق والعتق ، ولم يصح منه موجب اليمين بالله تعالى في التكفير ، فلم تصح منه اليمين بالله تعالى .

                                                                                                                                            قيل : موجب اليمين هو الوفاء بها ، والكفارة حكم تعلق بالحنث ، فلم يمنع من انعقاد اليمين ، وإن أفضت إلى التكفير الذي لا يصح منه ، ألا ترى أن الكافر لو دخل الحرم فقتل فيه صيدا ضمنه بالجزاء ، وإن افتقر إخراج الجزاء إلى نية لم يصح من الكافر ، ولم يسقط عنه الجزاء .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام يجب ما قبله فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الخبر يقتضي إسقاط ما وجب ، وعندهم أنه لم يجب ما يسقط .

                                                                                                                                            والثاني : أنه محمول على سقوط المأثم دون المغرم .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأن التكفير بالمال لا يصح منه كالصيام ، فهو أن الصيام عبادة محضة فلم تصح من الكافر كالصلاة ، والمال حق ينصرف إلى الآدميين ، فصح من الكافر ، وإن استحقت فيه النية كجزاء الصيد في الحرم ، ولا يمنع إذا لم يصح منه أحد أنواع التكفير أن تجب عليه الكفارة ، ألا ترى أن الحائض لا يصح منها التكفير بالصيام ، ويصح منها التكفير بالمال ، والعبد لا يصح منه التكفير بالمال ، ويصح منه التكفير بالصيام ، والمجنون إنما لا يصح منه التكفير بالمال والصيام : لأنه غير مكلف ، والكافر مكلف ، فلذلك انعقدت يمين الكافر ، وإن لم يعقد يمين المجنون .

                                                                                                                                            وأما الزكاة : فلأنها فرضت على المسلم طهرة ، فخرج منها الكافر ، ولزمته الكفارة عقوبة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية