الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الثالثة : التقاط العبد ، وهو على ثلاثة أضرب . أحدها : التقاط لم يأذن فيه السيد ولا نهى عنه ، وفيه قولان . أظهرهما : لا يصح ، والثاني : كاحتطابه ، ويكون الحاصل لسيده . فإن قلنا : لا يصح التقاطه ، لم يعتد بتعريفه . ثم إن لم يعلم السيد التقاطه ، فالمال مضمون في يد العبد ، والضمان متعلق برقبته ، سواء أتلفه ، أو تلف بتفريط ، أو بغير تفريط ، كالمغصوب . وإن علم ، فله أحوال . أحدها : أن يأخذه من يده . ولهذا مقدمة ، وهي أن القاضي لو أخذ المغصوب من الغاصب ليحفظه للمالك ، هل يبرأ الغاصب من الضمان ؟ وجهان . أقيسهما : البراءة ، لأن يد القاضي نائبة عن يد المالك . فإن قلنا : لا يبرأ ، فللقاضي أخذه منه . وإن قلنا : يبرأ ، فإن كان المال معرضا للضياع ، والغاصب بحيث لا يبعد أن يفلس ، أو يغيب وجهه ، فكذلك ، وإلا ، فوجهان أحدهما : لا يأخذ ، فإنه أنفع للمالك . والثاني : يأخذ نظرا لهما جميعا . وليس لآحاد الناس أخذ المغصوب إذا لم يكن معرضا للضياع ، ولا الغاصب بحيث تفوت مطالبته ظاهرا . وإن كان كذلك ، فوجهان . أصحهما : المنع ، لأن القاضي هو النائب عن الناس ، ولأنه [ ص: 394 ] قد يؤدي إلى الفتنة . والثاني : الجواز احتسابا ونهيا عن المنكر . فعلى الأول ، لو أخذه ضمنه ، وكان كغاصب من غاصب . وعلى الثاني : لا يضمن ، وبراءة الغاصب على الخلاف السابق ، وأولى بأن لا يبرأ . قال الإمام : ويجوز أن يقال : إن كان هناك قاض يمكن رفع الأمر إليه ، فلا يجوز ، وإلا ، فيجوز . إذا عرف هذا ، فقال معظم الأصحاب : إذا أخذ السيد اللقطة من العبد كان أخذه التقاطا ، لأن يد العبد إذا لم تكن يد التقاط ، كان الحاصل في يده ضائعا بعد ، ويسقط الضمان عن العبد لوصوله إلى نائب المالك ، فإن كل أهل للالتقاط كأنه نائب عنه . وبمثله قالوا فيما لو أخذه أجنبي ، إلا أن المتولي جعل أخذ الأجنبي على الخلاف فيما لو تعلق صيد بشبكة رجل فأخذه غيره ، واستبعد الإمام قولهم : إن أخذ السيد التقاط ، لأن العبد ضامن بالأخذ . ولو كان أخذ السيد التقاطا ، لسقط الضمان عنه ، فيتضرر [ به ] المالك ، وهذا وجه ذكره ابن كج والمتولي ، وحكيا تفريعا عليه أن السيد ينتزعه من يده ، ويسلمه إلى الحاكم ليحفظه لمالكه أبدا . وأما الإمام فقال : إذا قلنا : إنه ليس بالتقاط ، فأراد أخذه بنفسه وحفظه لمالكه ، فوجهان مرتبان على أخذ الآحاد المغصوب للحفظ ، وأولى بالمنع ، لأن السيد ساع لنفسه غير متبرع . ثم يترتب على جواز الأخذ حصول البراءة كما قدمنا . وإن استدعى من الحاكم انتزاعه ، فهذه الصورة أولى بأن يزيل الحاكم فيها اليد العادية . وإذا أزال ، فأولى أن تحصل [ البراءة ] لتعلق غرض السيد بالبراءة ، وهو غير منسوب إلى عدوان حتى يغلظ عليه .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن يقره في يده ، ويستحفظه عليه ليعرفه . فإن لم يكن العبد أمينا ، فهو متعد بالإقرار ، وكأنه أخذه منه ورده إليه . وإن كان أمينا ، جاز ، [ ص: 395 ] كما لو استعان به في تعريف ما التقطه بنفسه . وذكر الإمام في سقوط الضمان وجهين .

                                                                                                                                                                        أصحهما عنده : المنع . وقياس كلام الجمهور سقوطه . الحال الثالث : أن لا يأخذه ولا يقره ، بل يهمله ويعرض عنه . فنقل المزني أن الضمان يتعلق برقبة العبد كما كان ، ولا يطالب به السيد في سائر أمواله ، لأنه لا تعدي منه ، ولا أثر لعلمه ، كما لو رأى عبده يتلف مالا فلم يمنعه ، ونقل الربيع تعلقه بالعبد ، وبجميع أموال السيد . وعكس الإمام ، والغزالي ، فنسبا الأول إلى الربيع ، والثاني إلى المزني . والصواب المعتمد ، ما سبق ثم فيهما أربعة طرق . أصحها وقول الأكثرين : المسألة على قولين . أظهرهما : تعلقه بالعبد ، وسائر أموال السيد ، حتى لو هلك العبد ، لا يسقط الضمان . ولو أفلس السيد ، قدم صاحب اللقطة في العبد على سائر الغرماء . ومن قال به ، لم يسلم عدم وجوب الضمان إذا رأى عبده يتلف مالا فلم يمنعه . والطريق الثاني : حمل نقل المزني على ما إذا كان العبد مميزا ، ونقل الربيع على غير المميز . والثالث : القطع بنقل المزني في النقل . والرابع : القطع بنقل الربيع ، وبه قال أبو إسحاق ، وغلطوا المزني في النقل هذا كله إذا قلنا : لا يصح التقاطه . فإن قلنا : يصح ، صح تعريفه ، وليس له التعريف أن يتملكه لنفسه ، وله التملك للسيد بإذنه ، ولا يجوز بغير إذنه على المذهب . وقيل : وجهان كاتهابه وشرائه ، فعلى المذهب قيل : لا يصح تعريفه بغير إذن سيده . والصحيح صحته كالالتقاط . قال الإمام : لكن إن قلنا : انقضاء مدة التعريف توجب الملك ، فيجوز أن يقال : لا يصح تعريفه ، ويجوز أن يقال : يصح ولا يثبت الملك ، كما لا يثبت إذا عرف من قصد الحفظ . ثم لا يخلو ، إما أن يعلم السيد بالالتقاط ، وإما أن لا يعلم . فإن لم يعلم ، فالمال أمانة في يد العبد ، لكن لو كان معرضا عن التعريف ، ففي الضمان وجهان كالوجهين في الحر إذا امتنع من التعريف . ولو أتلفه العبد بعد مدة التعريف ، أو تملكه لنفسه فهلك عنده ، فهل يتعلق الضمان بذمته كما لو اقترض فاسدا وأتلفه ، أم برقبته كالمغصوب ؟ وجهان . وبالأول قطع الشيخ أبو محمد في " الفروق " ، [ ص: 396 ] ولو أتلفه في المدة ، أو تلف بتقصيره ، فالمذهب تعلق الضمان برقبته ، وبه قطع الجمهور ، لأنه خيانة محضة ، إذ لم يدخل وقت التملك ، بخلاف ما بعد المدة . وقيل : في تعلقه بالرقبة ، أو الذمة قولان . وإن علم به السيد ، فله أخذه كأكسابه ، ثم يكون كالتقاطه بنفسه . فإن شاء حفظه لمالكه ، وإن شاء عرف وتملك . فإن كان العبد عرف بعض المدة ، احتسب [ به ] وبنى عليه . وإن أقره في يده وهو خائن ، ضمن السيد بإبقائه في يده . وإن كان أمينا ، جاز ، ثم إن تلف في يده في مدة التعريف ، فلا ضمان . وإن تلف بعدها ، فإن أذن السيد في التملك فتملك ، لم يخف الحكم ، وإلا ، فوجهان . أصحهما : يتعلق الضمان بالسيد ، لإذنه في سبب الضمان ، كما لو أذن له في استيام شيء فأخذه فتلف في يده . والثاني :

                                                                                                                                                                        [ لا ] كما لو أذن له في الغصب فغصب . فعلى الأول ، يتعلق الضمان أيضا بذمة العبد ، فيطالب به بعد العتق كما يطالب به السيد في الحال ، وعلى الثاني ، يتعلق برقبته كما يتعلق بمال السيد . وإن لم يأذن ، فهل يتعلق الضامن بذمة العبد ، أم برقبته ؟ وجهان . أصحهما : الأول ، ولا يتعلق بالسيد قطعا . فإن أتلفه العبد بعد المدة ، فعلى الخلاف السابق .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال صاحب " التقريب " : القولان في أصل المسألة ، فيما إذا نوى الالتقاط لنفسه ، فإن نوى لسيده ، فيحتمل أن يطرد القولان ، ويحتمل أن يقطع بالصحة . وقال ابن كج : القولان إذا التقط ليدفع إلى سيده . فإن قصد نفسه ، فليس له الالتقاط قطعا ، بل هو متعد ، وحكاه عن أبي إسحاق ، والقاضي أبي حامد .

                                                                                                                                                                        الضرب الثاني : التقاط بإذن السيد ، بأن يقول : متى وجدت لقطة فخذها ، وائتني بها ، فطريقان . قال ابن أبي هريرة بطرد القولين ، لأن الإذن لا يفيده أهلية الولاية .

                                                                                                                                                                        [ ص: 397 ] وقطع غيره بالصحة ، وإليه ميل الإمام ، كما لو أذن في قبول الوديعة ، ولو أذن له في الاكتساب مطلقا ، ففي دخول الالتقاط وجهان . الضرب الثالث : التقاط نهاه عنه السيد ، فقطع الإصطخري بالمنع ، وطرد غيره القولين .

                                                                                                                                                                        قلت : طريقة الإصطخري أقوى ، ولكن سائر الأصحاب على طرد القولين ، قاله صاحب " المستظهري " . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا التقط ثم أعتقه السيد ، فإن صححنا التقاطه ، فهي كسب عبده يأخذها السيد ويعرفها ، ويتملكها . فإن كان العبد عرف ، اعتد به ، هذا هو المذهب . وقال ابن القطان : هل السيد أحق نظرا إلى وقت الالتقاط ، أم العبد نظرا إلى وقت التملك ؟ وجهان . وإن لم نصحح التقاطه ، قال ابن كج : للسيد حق التملك إذا قلنا : للسيد التملك على هذا القول . وقطع الجمهور بأنه ليس للسيد أخذها . فعلى هذا ، هل للعبد تملكها وكأنه التقط بعد الحرية ، أم يجب أن يسلمها إلى الحاكم لأنه لم يكن أهلا ؟ وجهان . أصحهما : الأول .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        في التقاط المكاتب طرق . أحدها : الصحة قطعا . والثاني : المنع قطعا ، بخلاف القن ، فإن السيد ينتزع منه ، ولا ولاية للسيد على مال المكاتب مع نقصانه . والثالث وهو الأصح عند الجمهور : طرد القولين كالعبد ، لكن الأظهر هنا باتفاق الأصحاب ، [ ص: 398 ] صحة التقاطه . ثم المذهب أن هذه الطرق في المكاتب كتابة صحيحة . فأما الفاسدة ، فكالقن قطعا . وقيل بطرد الخلاف في النوعين ، ونقل الإمام عن العراقيين ، تفريعا على القطع بالصحة ، أن في إبقاء اللقطة في يده قولين كما سبق في الفاسق ، وكتبهم ساكتة عن ذلك إلا ما شاء الله تعالى . فإن صححنا التقاط المكاتب ، عرفها وتملكها ويكون بدلها في كسبه . وفي تقدم المالك به على الغرماء وجهان في " أمالي " أبي الفرج الزاز . وإذا أعتق في مدة التعريف ، أتم التعريف وتملك . وإن عاد إلى الرق قبل تمام التعريف ، فالمنقول عن الأصحاب ، أن القاضي يأخذها ويحفظها للمالك ، وأنه ليس للسيد أخذها وتملكها ، لأن التقاط المكاتب لا يقع للسيد ، فلا ينصرف إليه . وقال البغوي : ينبغي أن يجوز له الأخذ ، والتملك ، لأن الالتقاط اكتساب ، وأكساب المكاتب لسيده عند عجزه . قال : وكذا لو مات المكاتب ، أو العبد قبل التعريف ، وجب أن يجوز للسيد التعريف ، والتملك ، كما أن الحر إذا التقط ومات قبل التعريف ، يعرف الوارث ويتملك . وإذا لم نصحح التقاطه فالتقط ، صار ضامنا ، ولا يأخذ السيد اللقطة منه ، بل يأخذها القاضي ويحفظها ، هكذا ذكروه . ولك أن تقول : ذكرتم تفريعا على منع التقاط القن ، أن للأجنبي أخذها ويكون ملتقطا ، ولم تعتبروا الولاية ، وليس السيد في حق المكاتب بأدنى حالا من الأجنبي في القن . ثم إذا أخذها الحاكم برئ المكاتب من الضمان . ثم كيف الحكم ؟ ذكر الشيخ أبو حامد ، وغيره : أنه يعرفها ، فذا انقضت مدة التعريف ، تملكها المكاتب . والأصح : أنه ليس له التملك ، فإن التفريع على فساد الالتقاط ، لكن إذا [ أخذها ] حفظها إلى أن يظهر مالكها .

                                                                                                                                                                        [ ص: 399 ] فرع

                                                                                                                                                                        من بعضه حر وبعضه رقيق ، هل يصح التقاطه قطعا ، أم على القولين كالقن ؟ فيه طريقان . وقيل : يصح في قدر الحرية قطعا ، وفي الباقي الطريقان ، وبهذا قطع المتولي ، وأبداه الشاشي احتمالا .

                                                                                                                                                                        قلت : المذهب المنصوص ، صحة التقاطه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فإن قلنا : لا يصح ، فهو متعد بالأخذ ، ضامن بقدر الحرية في ذمته ، ويؤخذ منه إن كان له مال ، وبقدر الرق في رقبته . وهل ينتزع منه ، أم يبقى في يده ويضم إليه مشرف ؟ وجهان حكاهما ابن كج . أصحهما : الانتزاع . وعلى هذا ، هل يسلم إلى السيد ، أم يحفظه الحاكم إلى ظهور مالكه ؟ وجهان . الصحيح : الثاني . فإن سلم إلى السيد ، فعن أبي حفص بن الوكيل : أن السيد يعرفه ويتملكه . قال ابن كج : ويحتمل عندي أن يكون بينهما بحسب الرق والحرية . أما إذا قلنا : يصح التقاطه ، فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة ، فاللقطة بينهما يعرفانها ويتملكانها بحسب الرق والحرية كشخصين التقطا مالا . وقال ابن الوكيل : يختص بها السيد كلقطة القن ، وليس بشيء . وإن كان بينهم مهايأة ، بني على أن الكسب النادر هل يدخل في المهايأة ؟ فيه قولان . ويقال : وجهان ذكرناهما في زكاة الفطر . وميل العراقيين والصيدلاني هناك إلى ترجيح عدم الدخول ثم أنهم مع سائر الأصحاب ، كالمتفقين على ترجيح عدم الدخول هنا ، وهو نصه في " المختصر " . فعلى هذا ، إن وقعت اللقطة في نوبة السيد ، عرفها وتملكها . وإن وقعت في نوبة العبد ، عرفها وتملك . والاعتبار بوقت الالتقاط ، هذا هو الصحيح المعروف . وأشار [ ص: 400 ] الإمام إلى وجه : أن الاعتبار بوقت التملك . وإن قلنا : النادر لا يدخل في المهايأة ، فهو كما لو لم يكن مهايأة .

                                                                                                                                                                        قلت : ونقل إمام الحرمين في باب زكاة الفطر اتفاق العلماء على أن أرش الجناية لا يدخل في المهايأة ، لأنه يتعلق بالرقبة وهي مشتركة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        المدبر ، والمعلق عتقه بصفة ، وأم الولد كالقن في الالتقاط . لكن حيث حكمنا بتعلق الضمان برقبة القن ، ففي أم الولد يجب على السيد ، سواء علم التقاطها ، أم لا ، لأن جنايتها على السيد . وفي " الأم " أنه إن علم سيدها ، فالضمان في ذمته ، وإلا ، ففي ذمتها ، وهذا لم يثبته الأصحاب ، وقالوا : هذا سهو من كاتب ، أو غلط من ناقل ، وربما حاولوا تأويله .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية