الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الباب الخامس في المولى عليه

                                                                                                                                                                        الأسباب المقتضية لنصب الولي خمسة : الصغر ، والأنوثة ، والجنون ، والسفه ، والرق ، وقد سبق حكم الأولين .

                                                                                                                                                                        السبب الثالث : الجنون . فإن كان المجنون كبيرا ، لم يزوج لغير حاجة ، ويزوج للحاجة ، وذلك بأن تظهر رغبته فيهن بدورانه حولهن وتعلقه بهن ونحو ذلك . أو بأن يحتاج إلى من يخدمه ويتعهده ، ولا يجد في محارمه من يحصل هذا ، وتكون مئونة النكاح أخف من ثمن جارية ، أو بأن يتوقع شفاؤه بالنكاح . وإذا جاز تزويجه ، تولاه الأب ، ثم الجد ، ثم السلطان ، دون سائر العصبات ، كولاية المال . وإن كان المجنون صغيرا ، لم يصح تزويجه على الصحيح . وقيل : يزوجه الأب أو الجد ، وطرد الشيخ أبو محمد الوجهين في الصغير العاقل الممسوح .

                                                                                                                                                                        ومتى جاز تزويج المجنون ، لم يزوج إلا امرأة واحدة ، والمخبل كالمجنون في النكاح ، وهو الذي في عقله خلل ، وفي أعضائه استرخاء ، ولا حاجة به إلى النكاح غالبا . ويجوز أن يزوج الصغير العاقل أربعا على الأصح . وقيل : لا يجوز أن يزيد على واحدة .

                                                                                                                                                                        قلت : وفي الإبانة وجه : أنه لا يجوز تزويجه أصلا ، وزعم أنه الأصح ، وهو غلط . [ ص: 95 ] ثم إنما يزوج الصغير العاقل الأب والجد ، ولا يصح تزويج الوصي والقاضي ، لعدم الحاجة وانتفاء كمال الشفقة ، هذا هو الصواب الذي عليه في البويطي ، وصرح به الجمهور . وقال في " البيان " : يجوز للوصي والحاكم كالأب ، وليس بشيء . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        في المجنونة أوجه . الصحيح : أن الأب - والجد عند عدمه - يزوجانها ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، بكرا أم ثيبا . والثاني : لا يستقلان بتزويج الكبيرة الثيب ، بل يشترط إذن السلطان بدلا عن إذنها . والثالث : لا يزوج الثيب الصغيرة كما لو كانت عاقلة ، والفرق على الصحيح أن البلوغ غاية تنتظر .

                                                                                                                                                                        ثم لا يشترط في تزويجها ظهور الحاجة ، بل يكفي ظهور المصلحة ، بخلاف المجنون ، لأن نكاحها يفيد المهر والنفقة ، ويغرم المجنون .

                                                                                                                                                                        وسواء التي بلغت مجنونة ، ومن بلغت عاقلة ثم جنت ، بناء على أن من بلغ عاقلا ثم جن ، فولاية ماله لأبيه ، وهو الأصح . وإن قلنا : إنها للسلطان ، فكذا التزويج .

                                                                                                                                                                        وأما المجنونة التي لا أب لها ولا جد ، فإن كانت صغيرة ، لم تزوج ، إذ لا إجبار لغير الأب والجد ، ولا حاجة لها في الحال . وإن كانت بالغة ، ففيمن يزوجها وجهان . أحدهما : القريب كالأخ والعم ، لكن لا ينفرد به ، بل يشترط إذن السلطان مقام إذنها . فإن امتنع القريب ، زوجها السلطان كما لو عضلها . وأصحهما : يزوجها السلطان كما يلي مالها ، لكن يراجع أقاربها ، لأنهم أعرف بمصلحتها وتطييبا لقلوبهم ، وهذه المراجعة واجبة ، أم مستحبة ؟ وجهان . صحح البغوي الوجوب ، وضعفه الإمام . [ ص: 96 ] فإن أوجبنا المشاورة ، فلم يشيروا بشيء ، استقل السلطان . ويجري الوجهان في وجوب المشاورة في تزويج المجنون . ثم من ولي نكاحها من السلطان أو القريب ، يزوج عند ظهور الحاجة بأن تظهر علامات غلبة شهوتها ، أو يقول أهل الطب : يرجى بتزويجها الشفاء .

                                                                                                                                                                        أما إذا لم تظهر ، وأراد التزويج لكفاية النفقة ، أو لمصلحة أخرى ، فهل يجوز كما يجوز للأب بمجرد المصلحة ؟ أم لا لأن تزويجها يقع إجبارا وليس هو لغير الأب والجد ؟ فيه وجهان . أصحهما : الثاني . قال الإمام : واتفق الأصحاب على الاكتفاء بالمصلحة في تزويج الأب والجد .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        البالغ المنقطع جنونه ، لا يصح تزويجه حتى يفيق فيأذن ، ويشترط وقوع العقد في حال إفاقته . فلو عاد الجنون قبل العقد ، بطل الإذن ، كما تبطل الوكالة بالجنون ، وهكذا الثيب المنقطع جنونها . وأما المغلوب على عقله بمرض ، فتنتظر إفاقته ، فإن لم تتوقع إفاقته ، فكالمجنون .

                                                                                                                                                                        السبب الرابع : السفه . فالمحجور عليه لسفه ، لا يستقل بالتزوج ، بل يراجع الولي ليأذن أو يزوجه . فإن أذن له الولي فتزوج ، جاز على الصحيح ، وعن أبي الطيب بن سلمة وغيره : أنه لا يجوز كالصبي .

                                                                                                                                                                        فعلى الصحيح ، إن عين له امرأة ، لم يصح نكاح غيرها ، ولينكحها بمهر المثل أو أقل . فإن زاد ، فحكى ابن القطان قولا مخرجا : أن النكاح باطل . والمشهور صحته ، لأن خلل الصداق لا يفسد النكاح . فعلى هذا ، تبطل الزيادة ، ويجب مهر المثل . وقال ابن الصباغ : القياس بطلان المسمى ووجوب مهر المثل .

                                                                                                                                                                        [ ص: 97 ] والفرق أن على التقدير الأول تستحق الزوجة مهر المثل من المعين ، وعلى قوله يجب مهر المثل في الذمة .

                                                                                                                                                                        وإن قال له الولي : انكح امرأة من بني فلان ، فلينكح واحدة منهن بمهر المثل . ولو قدر المهر ، ولم يعين المرأة ، فقال : انكح بألف ، فلينكح امرأة بألف . فإن كان مهر مثلها ألفا فأكثر ، فالنكاح صحيح بالمسمى . وإن كان أقل ، صح النكاح بمهر المثل ، وسقطت الزيادة . وإن نكح بألفين ، فإن كان مهر مثلها أكثر من ألف ، لم يصح النكاح ، لأن الولي لم يأذن في أكثر من ألف . وفي الرد إلى ألف إضرار بها . وإن كان مهر مثلها ألفا أو أقل ، صح النكاح بمهر المثل ، وسقطت الزيادة . وعن تخريج ابن خيران وابن القطان ، أنه متى زاد على ما أذن به الولي ، بطل النكاح بكل حال . ولو جمع الولي في الإذن بين تعيين المرأة وتقدير المهر ، فقال : انكح فلانة بألف ، فإن كان مهر مثلها دون الألف ، فالإذن باطل . وإن كان ألفا ، فنكحها بألف أو أقل ، صح النكاح بالمسمى . وإن زاد ، سقطت الزيادة . وإن كان مهر مثلها أكثر من ألف ، فإن نكح بألف ، صح النكاح بالمسمى ، وإن زاد ، لم يصح النكاح ، هكذا ذكره البغوي .

                                                                                                                                                                        أما إذا أطلق الولي الإذن ، فقال : تزوج ، فوجهان . أحدهما : ( وهو ) محكي عن أبوي علي : ابن خيران ، والطبري . وعن الداركي ، أنه يلغو الإذن ، ولا بد من تعيين امرأة ، أو قبيلة ، أو مهر . وأصحهما : يكفي الإطلاق كالعبد . فعلى هذا ، لو تزوج بأكثر من مهر المثل ، صح النكاح ، وسقطت الزيادة . وإن تزوج بمهر المثل أو أقل ، صح النكاح بالمسمى . لكن لو نكح شريفة يستغرق مهر مثلها ماله ، فوجهان حكاهما ابن كج . اختيار الإمام وبه قطع الغزالي : أنه لا يصح النكاح ، بل يتقيد [ ص: 98 ] بموافقة المصلحة . ذكر ابن كج تفريعا على اعتبار الإذن المطلق وجهين فيما لو عين الولي امرأة فعدل السفيه إلى غيرها ( فنكحها ) بمثل مهر المعينة ، لأنه لا غرض للولي في أعيان الزوجات .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : انكح من شئت بما شئت ، ذكر بعضهم أنه يبطل الإذن ، لأنه رفع الحجر بالكلية .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال ابن كج : الإذن للسفيه في النكاح ، لا يفيده جواز التوكيل ، لأنه لم يرفع الحجر .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        أما إذا قبل الولي النكاح للسفيه ، ففي اشتراط إذن السفيه وجهان . أحدهما : لا ، لأنه فوض إليه رعاية مصلحته . فإذا عرف حاجته ، زوجه كما يكسوه ويطعمه . وبهذا قال الشيخ أبو حامد والعراقيون . وأصحهما : نعم ، لأنه حر مكلف . وقد نص الشافعي - رحمه الله - في المختصر : أن السفيه يزوجه وليه ، فربما استأنس به الأولون ، وحمله الآخرون على أصل التزويج ، ثم يراعى شرطه ، ونقل الربيع : أنه لا يزوجه وليه ، واتفقوا على أنه ليس اختلاف قول ، بل حمل قوم رواية الربيع على القيم الذي لم يأذن له الحاكم في التزويج ، وبعضهم على ما إذا [ ص: 99 ] لم يحتج السفيه إلى النكاح . ثم إذا قبل له الولي النكاح ، فليقبل بمهر المثل أو أقل ، فإن زاد ، كان كما لو قبل الأب لابنه بأكثر من مهر المثل . ففي قول : يبطل النكاح . والأظهر : أنه يصح بمهر المثل .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية