الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 129 ] الجنس الثالث من الموانع : رق المرأة ، وهو ضربان . رقيقة يملكها ، ورقيقة لا يملكها . الضرب الأول : مملوكته ، فليس له نكاح من يملكها أو بعضها . ولو ملك بعض زوجته ، انفسخ نكاحه ، وليس لها نكاح من تملك بعضه . ولو ملكت زوجها ، انفسخ نكاحها .

                                                                                                                                                                        الضرب الثاني : أمة غيره ، فلا تحل للحر إلا بشروط .

                                                                                                                                                                        أحدها : أن لا يكون تحته حرة يتيسر الاستمتاع بها مسلمة أو كتابية . وفي وجه : لا يمنع كون الكتابية تحته . فإن لم يتيسر الاستمتاع ، بأن كانت تحته صغيرة ، أو هرمة ، أو غائبة ، أو مجنونة ، أو مجذومة ، أو برصاء ، أو رتقاء ، أو مضناة لا تحتمل الجماع ، فوجهان . أحدهما : يصح نكاح الأمة ، وهذا أصح عند صاحب " المهذب " والقاضي حسين ، وقطع به ابن الصباغ وجماعة من العراقيين . والثاني : المنع ، وبه قطع الإمام والغزالي والبغوي . فعلى هذا ، لا يصح نكاح الأمة حتى تبين منه الحرة .

                                                                                                                                                                        ( الشرط ) الثاني : أن لا يقدر على نكاح حرة لعدم الحرة ، أو عدم صداقها . فلو قدر على نكاح حرة رتقاء ، أو قرناء ، أو مجنونة ، أو مجذومة ، أو رضيعة ، أو معتدة من غيره ، فله نكاح الأمة على الأصح . ولو قدر على حرة كتابية ، لم تحل الأمة على الأصح ، وقول الله تعالى : ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات )

                                                                                                                                                                        [ النساء : 25 ] قيد بالمؤمنات ، لأنه الغالب ، لا للاشتراط .

                                                                                                                                                                        ولو قدر على حرة غائبة ، قال الأصحاب : إن كان يخاف العنت في مدة قطع المسافة ، أو يلحقه مشقة ظاهرة بالخروج إليها ، فله نكاح الأمة ، وإلا ، فلا . قال الإمام : المشقة المعتبرة ، أن ينسب متحملها في طلب زوجه إلى الإسراف . ولو لم يجد [ ص: 130 ] إلا حرة لا ترضى إلا بأكثر من مهر مثلها ، وهو واجده ، فنقل البغوي : أنه لا ينكح أمة . ونقل المتولي جوازه . وقال الإمام والغزالي : إن كانت زيادة يعد بذلها إسرافا ، حلت الأمة ، وإلا ، فلا . وفرقوا بينه وبين الماء في التيمم ، بأن الحاجة إلى الماء تتكرر ، وبأن هذا الناكح لا يعد مغبونا .

                                                                                                                                                                        قلت : قطع آخرون بموافقة المتولي ، وهو الأصح . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ولو لم يقدر على مهر ، ووجد حرة ترضى بمهر مؤجل ، وهو يتوقع القدرة عليه عند المحل ، أو وجد من يبيعه نسيئة ما يفي بصداقها ، أو وجد من يستأجره بأجرة معجلة ، أو رضيت حرة بأن ينكحها بلا مهر ، حلت الأمة على الأصح . ولو أقرض مهرها ، لم يجب القبول على المذهب ، لاحتمال المطالبة في الحال . وقيل بالوجهين . ولو رضيت حرة بدون مهر مثلها ، وهو يجده ، لم تحل الأمة على المذهب ، لأن المنة فيه قليلة ، إذ العادة المسامحة في المهور . ولو وهب له مال أو جارية ، لم يلزمه القبول ، وحلت الأمة . ومن له مسكن وخادم ، هل له نكاح الأمة ، أم عليه بيعهما وصرفهما إلى طول حرة ؟ وجهان حكاهما ابن كج .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما الأول . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        والمال الغائب لا يمنع نكاح الأمة ، كما لا يمنع ابن السبيل الزكاة . ومن هو معسر ، وله ابن موسر ، يجوز له نكاح الأمة إن لم نوجب على الابن إعفافه . وإن أوجبناه ، فوجهان ، لأنه مستغن بمال الابن .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما : المنع ، وبه قطع جماعة . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        [ ص: 131 ] الشرط الثالث : خوف العنت ، والمراد به هنا الزنا ، قال الإمام : ليس المراد بالخوف أن يغلب على ظنه الوقوع في الزنا ، بل أن يتوقعه لا على الندور . وليس المراد بغير الخائف أن يعلم اجتنابه ، بل غلبة الظن بالتقوى ، والاجتناب ينافي الخوف ، فمن غلبت عليه شهوته ، وضعف تقواه ، فهو خائف . ومن ضعفت شهوته ، وهو يستبدع الزنا لدين أو مروءة أو حياء ، فهو غير خائف . وإن غلبت شهوته ، وقوي تقواه ، ففيه احتمالان للإمام . أصحهما : لا يجوز نكاح الأمة ، وبه قطع الغزالي ، لأنه لا يخاف الوقوع في الزنا . والثاني : إن كان ترك الوقاع يجر ضررا أو مرضا ، فله نكاح الأمة . وأما المجبوب ، فلا يتصور منه الزنا . قال الإمام والمتولي : ليس له نكاح الأمة . قال المتولي : فلو نكح حر أمة ، فوجدته مجبوبا ، وأرادت الفسخ ، فقال الزوج : جب ذكري بعد النكاح . فإن كان قوله غير محتمل ، بأن كان الموضع مندملا ، وقد عقد النكاح أمس ، فالنكاح باطل . وإن كان محتملا ، فإن صدقته ، فذاك ، وإن كذبته ، فدعواها باطلة لأن مقتضى قولها ، بطلان النكاح من أصله . وقال الروياني في البحر : للخصي والمجبوب نكاح الأمة عند خوف الوقوع في الفعل المأثوم به ، لأن العنت المشقة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        القادر على شراء أمة يتسراها ، لا يحل له نكاح أمة على المذهب . ولو كان في ملكه أمة ، لم ينكح أمة قطعا ، وطرد الحناطي الخلاف فيه ، فعلى المذهب لو كانت الأمة التي يملكها غير مباحة ، فإن وفت قيمتها بمهر حرة ، أو ثمن أمة يتسراها ، لم ينكح الأمة ، وإلا ، فينكحها .

                                                                                                                                                                        [ ص: 132 ] الشرط الرابع : كون الأمة المنكوحة مسلمة ، ولا يشترط كونها لمسلم على الأصح ، ويجوز للحر الكتابي نكاح الأمة الكتابية على الأصح ، ويقال : الأظهر ، ولا يجوز نكاحها للعبد المسلم على المشهور . وأما نكاح العبد المسلم الأمة المسلمة ، فسيأتي إن شاء الله تعالى في باب ( نكاح ) المشرك . والعبد الكتابي ، ينكح الأمة الكتابية إن نكحها الحر الكتابي ، وإلا ، فوجهان . أصحهما : الجواز .

                                                                                                                                                                        قلت : ونكاح الحر المجوسي والوثني الأمة المجوسية والوثنية ، كالكتابي الأمة الكتابية . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        للحر المسلم وطء أمته الكتابية دون المجوسية والوثنية ، كالنكاح في حرائرهم .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        من استجمع شروط نكاح الأمة ، ليس له نكاح أمة صغيرة لا توطأ على الأصح ، لأنه لا يأمن بها العنت . ومن بعضها رقيق كالرقيقة ، لا ينكحها حر إلا بالشروط . ولو قدر على نكاحها ، فهل يباح له نكاح الرقيقة المحضة ؟ فيه تردد للإمام ، لأن إرقاق بعض الولد أهون من إرقاق كله . وحكي عن بعض الأصحاب أن من بعضه رقيق كالرقيق ، فينكح الأمة مع القدرة على الحرة ، لأنه كالرقيق في الولاية والنظر .

                                                                                                                                                                        [ ص: 133 ] فصل

                                                                                                                                                                        ولد الأمة المنكوحة رقيق لمالكها ، سواء كان زوجها الحر عربيا أو غيره ، وفي القديم قول أن العرب لا يجري عليهم الرق ، فيكون ولد العربي حرا ، وهل على الزوج قيمته كالمغرور ؟ أم لا شيء عليه لأن السيد رضي حين زوجها عربيا ؟ فيه قولان .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        في " فتاوى " القاضي حسين : أنه لو زوج أمته بواجد طول حرة ، فأولدها ، فالأولاد أرقاء ، لأن شبهة النكاح كالنكاح الصحيح .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        نكح الحر أمة بشروطه ، ثم أيسر أو نكح حرة ، لا ينفسح نكاح الأمة . وقال المزني : ينفسخ .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        جمع حر حرة وأمة في عقد ، فإن كان ممن لا يحل له نكاح الأمة ، فنكاح الأمة باطل ، ونكاح الحرة صحيح على الأظهر . وإن كان ممن يحل له نكاح الأمة ، بأن وجد حرة تسمح بمهر مؤجل ، أو بلا مهر ، أو بدون مهر المثل ، أو حرة [ ص: 134 ] كتابية ، وقلنا : إن هذه المعاني لا تمنع نكاح الأمة ، بطل نكاح الأمة قطعا ، لاستغنائه عنه . وفي الحرة طريقان . أظهرهما عند الإمام وبه قال صاحب " التلخيص " : أنه على القولين . وقال ابن الحداد وأبو زيد وآخرون : يبطل قطعا ، لأنه جمع بين امرأتين يجوز إفراد كل منهما ، ولا يجوز الجمع ، فأشبه الأختين ، ومن قال بالأول ، فرق بأن الأختين ليس فيهما أقوى ( والحرة أقوى ) . ولو جمع بين مسلمة ووثنية ، أو أجنبية ومحرم ، أو خلية ومعتدة أو مزوجة ، فهو كالجمع بين الحرة والأمة لمن لا تحل له الأمة . وإذا صححنا نكاح من تحل ( له ) ، فقد سبق في تفريق " الصفقة " قول : أنها تستحق جميع المسمى ، وأن المذهب أنها لا تستحق جميعه ، بل تستحق مهر المثل في قول ، وما يخص مهر مثلها من المسمى إذا وزع على مهر مثلها ومهر مثل الأخرى في قول . فإن قلنا : تستحق جميع المسمى ، فللزوج الخيار في فسخ الصداق والرجوع إلى مهر المثل كما ذكرنا في باب " التفريق " . وإن قلنا : تستحق مهر المثل ، فلا فسخ ، إذ لا فائدة ( فيه ) ، فإنه لو فسخ لرجع إليه . وإن قلنا : تستحق حصة مهر المثل من المسمى ، قال الشيخ أبو علي : إن كان المسمى مما يمكن قسمته ، كالحبوب ، فلا خيار . وإن كان مما لا يمكن ، كالعبد ، فله الخيار ، لتضرره بالتشقيص . فإن فسخ ، فعليه مهر المثل .

                                                                                                                                                                        واعلم أن الجميع بين من يحل ومن لا يحل ، يتصور بأن يكون المزوج وليهما ، بأن زوج أمته وبنته ، أو كان وكيلا لوليين ، أو ولي إحداهما ووكيلا في الأخرى . وموضع الخلاف إذا قال : زوجتك هذه وهذه بكذا ، فقال : قبلت نكاحهما بكذا . فأما إذا قال : زوجتك بنتي هذه ، وزوجتك أمتي هذه ، فقال : قبلت نكاح بنتك ، وقبلت نكاح أمتك ، أو اقتصر على قبول نكاح البنت ، فنكاح البنت صحيح بلا خلاف ، ولو فصل المزوج ، وقال الزوج : قبلت نكاحهما ، أو جمع المزوج ، وفصل الزوج ، فهل هو كما لو فصلا جميعا ، أو كما جمعا جميعا ؟ وجهان . أصحهما : الأول .

                                                                                                                                                                        ولو جمع بين أختين وأمة وهو ممن يحل له [ ص: 135 ] نكاح الأمة ، فنكاح الأختين باطل ، وفي الأمة الخلاف . ولو قال : زوجتك بنتي ، وبعتك هذا الزق من الخمر بكذا ، فقبلهما ، أو زوجتك بنتي وابني أو فرسي ، أو وهذا الزق ، صح نكاح البنت على المذهب ، لأن المضموم لا يقبل النكاح ، فلغا .

                                                                                                                                                                        وقيل بطرد القولين . فإن صححنا ، فلها مهر المثل إن قلنا فيمن جمع بين محللة ومحرمة : للمحللة مهر المثل . وإن قلنا هناك : لها حصة مهر المثل من المسمى ، فقال البغوي : يجب لها هنا جميع المسمى ، لتعذر التوزيع .

                                                                                                                                                                        قلت : ولو تزوج أمتين في عقد ، بطل نكاحهما قطعا كالأختين . وجميع ما ذكرناه في نكاح أمة غيره ، أردنا به غير أمة ولده ، وأما أمة ولده ، ففيها خلاف وتفصيل يأتي إن شاء الله تعالى في " الباب العاشر " . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية