الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        عن أبي العباس الروياني أنه إذا طلق امرأته ، فقيل له : طلقت امرأتك ؟ فقال : طلقة واحدة ، يقبل قوله ، لأن قوله : طلقتها ، صالح للابتداء ، غير متعين للجواب . وأنه لو قال : إن سرقت ذهبا فأنت طالق ، فسرقت ذهبا مغشوشا ، طلقت على الصحيح . وأنه لو قال : إن أجبتني عن خطابي فأنت طالق ، ثم خاطبها ، فقرأت آية تتضمن جوابه ، فإن قالت : قصدت بقراءتها جوابه ، طلقت . وإن قالت : قصدت القراءة أو لم تبين قصدها ، فلا طلاق . وأنه لو قال : إن لم تستوفي حقك من تركة أبيك تاما فأنت طالق ، وكان إخوتها قد أتلفوا بعض التركة ، فلا بد من استيفاء حصتها من الباقي وضمان التالف ، ولا يكفي الإبراء ، لأن الطلاق معلق بالاستيفاء ، إلا أن الطلاق إنما يقع عند اليأس من الاستيفاء . وأنه لو أشار إلى ذهب وحلف [ ص: 202 ] بالطلاق أنه الذي أخذه من فلان ، وشهد عدلان أنه ليس ذلك الذهب ، طلقت على الصحيح ، لأنها وإن كانت شهادة على النفي ، إلا أنه نفي يحيط العلم به . وأنه لو حلف بالطلاق أنه لا يفعل كذا ، فشهد عدلان عنده أنه فعله ، وظن صدقهما ، لزمه الأخذ بالطلاق ، وأنه لو كان له نسوة ففتحت إحداهن بابا ، فقال : من فتحته منكن فهي طالق . فقالت كل واحدة : أنا فتحته ، لم يقبل قولهن لإمكان البينة . فإن اعترف الزوج أنه لا يعرف الفاتحة ، لم يكن له التعيين ، وإنما يرجع إلى تعيينه إذا كان الطلاق مبهما . وأنه لو حلف بالطلاق أنه بعث فلانا إلى بيت فلان ، وعلم أن المبعوث لم يمض ، فقيل : يقع الطلاق لأنه لا يقتضي حصوله هناك ، والصحيح أنه لا طلاق لأنه يصدق أن يقال : بعثته ، فلم يمتثل ، وأنه لو قال : إن لم تطيعيني فأنت طالق ، فقالت : لا أطيعك . فقيل : تطلق في الحال ، والصحيح أنها لا تطلق حتى يأمرها بشيء فتمتنع ، أو ينهاها عنه فتفعله ، وأنه لو قال : امرأتي طالق إن دخلت دارها

                                                                                                                                                                        [ ولا دار لها ] وقت الحلف ، ثم ملكت دارا ، فدخلها ، طلقت . وأنه لو قال : إن لم تكوني الليلة في داري فأنت طالق ، ولا دار له ، ففي وقوع الطلاق وجهان ، بناء على التعليق بالمحال . وأنه لو قال : امرأتي هذه محرمة علي ، لا تحل لي أبدا ، فلا طلاق ، لأنه قد يظن تحريمها باليمين على ترك الجماع ، وليس اللفظ صريحا في الطلاق .

                                                                                                                                                                        وقيل : يحكم بالبينونة بهذا اللفظ ، والأول أصح . وأنه لو قيل لمن يسمى زيدا : يا زيد ، فقال : امرأة زيد طالق ، طلقت امرأته .

                                                                                                                                                                        وقيل : لا تطلق إلا أن يريد نفسه . وأنه لو قال : إن أجبت كلامي فأنت طالق ، ثم خاطب الزوج غيرها ، فأجابته ، فالصحيح أنها لا تطلق . وأنه لو قال : إن خرجت من الدار بغير إذني فأنت طالق ، فأخرجها هو ، هل يكون إذنا ؟ وجهان ، القياس المنع . وأنه لو عزل عن القضاء ، فقال : امرأة القاضي طالق ، ففي وقوع طلاقه وجهان . وأنه لو قيل : [ ص: 203 ] طلقت امرأتك ، فقال : اعلم أن الأمر على ما تقوله ، لم يكن إقرارا بالطلاق على الأصح . وأنه جلس مع جماعة فقام ولبس خف غيره ، فقالت له : استبدلت بخفك ولبست خف غيرك ، فحلف بالطلاق أنه لم يفعل ذلك ، فإن كان خرج بعد خروج الجماعة ، ولم يبق هناك إلا ما لبسه ، لم تطلق ، لأنه لم يستبدل ، بل استبدل الخارجون قبله ، وإن بقي غيره ، طلقت .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الكلام ضعيف في الطرفين جميعا ، بل صواب المسألة أنه إن خرج بعد خروج الجميع ، نظر ، إن قصد أني لم أجد بدله ، كان كاذبا ، فإن كان عالما بأنه أخذ بدله ، طلقت ، وإن كان ساهيا ، فعلى قولي طلاق الناسي ، وإن لم يكن قصد ، خرج على الخلاف السابق ، في أن اللفظ الذي تختلف دلالته بالوضع والعرف ، على أيهما يحمل لأن هذا يسمى استبدالا في العرف . وأما إن خرج وقد بقي بعض الجماعة ، فإن علم أن خفه مع الخارجين قبله ، فحكمه ما ذكرنا ، وإن علم أنه كان باقيا ، أو شك ، ففيه الخلاف في تعارض الوضع والعرف . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وأنه لو رأى امرأته تنحت خشبة ، فقال : إن عدت إلى مثل هذا الفعل فأنت طالق ، فنحتت خشبة من شجرة أخرى ، ففي وقوع الطلاق [ وجهان ] لأن النحت كالنحت ، لكن المنحوت غيره .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح الوقوع . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وأنه لو قال : إن لم تخرجي الليلة من داري فأنت طالق ، فخلعها مع أجنبي في الليل وجدد نكاحها ولم تخرج ، لم تطلق .

                                                                                                                                                                        [ ص: 204 ] وأنه لو حلف لا يخرج من البلد إلا معها ، فخرجا ، وتقدم معها بخطوات ، فوجهان . أحدهما : لا يحنث للعرف . والثاني : يحنث ، ولا يحصل البر إلا بخروجهما معا بلا تقدم ، وأنه لو حلف أن لا يضربها إلا بالواجب ، فشتمته ، فضربها بالخشب ، طلقت لأن الشتم لا يوجب الضرب بالخشب ، وإنما تستحق به التعزير ، وقيل خلافه .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح ، لا تطلق هنا ، ولا مسألة التقدم بخطوات يسيرة . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وأنه لو قال لزوجته : إن علمت من أختي شيئا فلم تقوليه لي فأنت طالق ، انصرف ذلك إلى ما يوجب ريبة ويوهم فاحشة ، دون ما لا يقصد العلم به ، كالأكل والشرب ، ثم لا يخفى أنه لا يشترط أن تقوله على الفور ، وأنها لو سرقت منه دينارا فحلف بالطلاق لتردينه عليه ، وكانت قد أنفقته ، لا تطلق حتى يحصل اليأس من رده بالموت ، فإن تلف الدينار وهما حيان ، فوقوع الطلاق على الخلاف في الحنث بفعل المكره .

                                                                                                                                                                        قلت : إن تلف بعد التمكن من الرد ، طلقت على المذهب . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وأنه لو سمع لفظ رجل بالطلاق ، وتحقق أنه سبق لسانه إليه ، لم يكن له أن يشهد عليه بمطلق الطلاق .

                                                                                                                                                                        وأنه لو قال : إن رأيت الدم فأنت طالق ، فالظاهر حمله على دم الحيض . وقيل : يتناول كل دم . وأنه لو قال : إن دخلت هذه الدار ، فأنت طالق ، وأشار إلى موضع من الدار ، فدخلت غير ذلك الموضع من الدار ، ففي وقوع الطلاق وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما الوقوع ظاهرا ، لكنه إن أراد ذلك الموضع ، دين . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 205 ] وأنه لو قال : إن كانت امرأتي في المأتم ، فأمتي حرة ، وإن كانت أمتي في الحمام ، فامرأتي طالق ، وكانتا عند التعليقين كما ذكر ، عتقت الأمة ، ولم تطلق الزوجة ، لأن الأمة عتقت عند تمام التعليق الأول ، وخرجت عن كونها أمته ، فلا يحصل شرط الطلاق . ولو قدم ذكر الأمة فقال : إن كانت أمتي في المأتم فامرأتي طالق ، وإن كانت امرأتي في الحمام ، فأمتي حرة ، فكانتا كما ذكر ، طلقت الزوجة .

                                                                                                                                                                        ثم إن كانت رجعية ، عتقت الأمة أيضا ، وإلا فلا . ولو قال : إن كانت هذه في المأتم ، وهذه في الحمام ، فهذه حرة ، وهذه طالق ، وكانتا ، حصل العتق والطلاق . وأنه لو قال : إن كان هذا ملكي فأنت طالق ، ثم وكل من يبيعه ، هل يكون إقرارا [ بأنه ملكه ؟ ] وجهان ، وكذا لو تقدم التوكيل على التعليق .

                                                                                                                                                                        قلت : إذا تقدم التوكيل ، يبعد وقوع الطلاق ، إذ لم يوجد حال التعليق ولا بعده ما يقتضي الإقرار ، والمختار في الحالتين أنه لا طلاق ، إذ يحتمل أن يكون وكيلا في التوكيل ببيعه ، أو كان لغيره وله عليه دين ، وقد تعذر استيفاؤه ، فيبيعه ليتملك ثمنه ، أو باعه غصبا ، أو باعه بولاية كالوالد والوصي والناظر . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وأنه لو كان بين يديه تفاحتان ، فقال لزوجته : إن لم تأكلي هذه التفاحة اليوم فأنت طالق ، وقال لأمته : إن لم تأكلي الأخرى اليوم فأنت حرة ، واشتبهت التفاحتان ، فوجهان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : أن الطريق أن تأكل كل واحدة تفاحة ، فلا يقع عتق ولا طلاق للشك ، والثاني : تأكل كل واحدة ما ظنت هي والزوج أنها تفاحتها . ولو خالع الزوج وباع الأمة في يومه ، ثم جدد النكاح والشراء ، تخلص [ ص: 206 ] من الحنث . وقيل : يبيع الأمة للمرأة في يومه ، وتأكل المرأة التفاحتين ، وأنه لو قال لامرأتيه : كلما كلمت رجلا فأنتما طالقان ، ثم قال لرجلين : اخرجا ، طلقتا .

                                                                                                                                                                        ولو قال : كلما كلمت رجلا فأنت طالق ، فكلم رجلين بكلمة ، طلقت طلقتين على الصحيح ، وقيل : طلقة . وأنه لو قال : أنت طالق إن تزوجت النساء ، أو اشتريت العبيد ، لم تطلق إلا إذا تزوج ثلاث نسوة ، أو اشترى ثلاثة أعبد .

                                                                                                                                                                        وأنه لو حلف لا يخرج من الدار ، فتعلق بغصن شجرة في الدار ، والغصن خارج ، حنث على الأصح . وأنه لو قال : إن لم تصومي غدا فأنت طالق ، فحاضت ، فوقوع الطلاق على الخلاف في المكره . وأن لو قال لنسوته الأربع : من حمل منكن هذه الخشبة فهي طالق ، فحملها ثلاث منهن ، فإن كانت خشبة ثقيلة لا تستقل بحملها واحدة ، طلقن . وإن استقلت ، لم تطلق واحدة منهن . وقيل : يطلقن .

                                                                                                                                                                        وأنه لو قال : أنت طالق إن لم أطأك الليلة ، فوجدها حائضا أو محرمة ، فعن المزني أنه حكى عن الشافعي ، ومالك ، وأبي حنيفة أنه لا طلاق ، فاعترض وقال : يقع ، لأن المعصية لا تعلق لها باليمين ، ولهذا لو حلف أن يعصي الله تعالى ، فلم يعص ، حنث .

                                                                                                                                                                        وقيل ما قاله المزني هو المذهب ، واختيار القفال . وقيل : على القولين ، كفوات البر بالإكراه . وأنه لو قال : إن لم أشبعك من الجماع الليلة فأنت طالق ، فقيل : يحصل البر إذا جامعها وأقرت أنها أنزلت .

                                                                                                                                                                        وقيل : يعتبر مع ذلك أن تقول : لا أريد الجماع ثانيا ، فإن كانت لا تنزل ، فيجامعها إلى أن تسكن لذاتها ، وإن لم تشته الجماع فيحتمل أن يبنى على الخلاف في التعليق بالمحال . وأن الوكيل بالطلاق إذا طلق لا يحتاج إلى نية إيقاع الطلاق عن موكله في الأصح . وأنه إن قال : إن بت عندك الليلة فأنت طالق ، فبات في مسكنها وهي غائبة ، لم تطلق . وأنه لو قال : إن لم أصطد ذلك الطائر اليوم فأنت طالق ، فاصطاد طائرا ، وادعى أنه ذلك الطائر ، [ ص: 207 ] قبل ، للاحتمال ، والأصل النكاح . فإن قال الحالف : لا أعرف الحال واحتمل الأمرين ، فيحتمل وقوع الطلاق وعدمه .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح عدمه كما سبق في آخر الباب الرابع في المسألة : أنت طالق إن لم يدخل زيد اليوم الدار وجهل دخوله . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ولو قال : أنت طالق الطلقة الرابعة ، فهل تطلق ؟ وجهان يقربان من الخلاف في التعليق بالمحال .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية