الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الباب الثاني في حكم الظهار

                                                                                                                                                                        له حكمان .

                                                                                                                                                                        أحدهما : تحريم الوطء إذا وجبت الكفارة إلى أن يكفر ، فلو وطئ [ ص: 269 ] قبل التكفير ، عصى ، ويحرم عليه الوطء ثانيا ، سواء كفر بالإطعام وغيره . وفي تحريم القبلة واللمس بشهوة ، وسائر الاستمتاعات ، قولان ، ويقال : وجهان ، أظهرهما عند الجمهور : الجواز ، وهو منسوب إلى الجديد ، وحكى ابن كج طريقا قاطعا به ، وقال : وهو الأصح . وقول الله تعالى : ( من قبل أن يتماسا ) محمول على الجماع كقوله تعالى : ( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ) .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        عد الإمام الصور التي تحرم فيها القبلة وسائر الاستمتاعات مع الوطء ، والتي تختص بالتحريم بالوطء ، فقال : ما حرم الوطء لتأثيره في الملك ، كالطلاق الرجعي وغيره ، والردة أو لحلها لغيره كالأمة المزوجة ، أو حرمها لاستبراء الرحم عن غيره ، كزوجته المعتدة عن وطء شبهة في صلب النكاح ، وكالمستبرأة بملك اليمين بشراء ونحوه ، فكل هذا يحرم فيه الاستمتاعات كلها ، وما حرم الوطء بسبب الأذى ، لا يحرم الاستمتاع .

                                                                                                                                                                        وأما العبادات المحرمة للوطء ، فالإحرام يحرم كل استمتاع تعبدا ، والصوم والاعتكاف يحرمان كل ما يخشى منه الإنزال لتأثرهما بالإنزال . وإذا قلنا في الظهار : لا تحرم القبلة واللمس ، ففيما بين السرة والركبة احتمالان ، لأنه يحوم حول الحمى ، هذا كلام الإمام ، وحكى البغوي وجها ، أنه يجوز الاستمتاع بزوجته المعتدة عن شبهة وغيره ويشبه أن يجيء في الاستمتاع بالمرهونة خلاف .

                                                                                                                                                                        قلت : الوجه الجزم بجوازه في مرهونته ، وقد جزم به الرافعي في باب الاستبراء . قال الإمام : وإذا لم يحرم الاستمتاع ، فلا بأس بالتلذذ وإن أفضى إلى الإنزال ، وقول الإمام : الإحرام يحرم كل استمتاع ، الصواب ، حمله على المباشرة [ ص: 270 ] بشهوة ، فأما اللمس ونحوه بغير شهوة ، فليس بحرام كما سبق في الحج . والأمة الوثنية والمجوسية والمرتدة ، يحرم فيها كل استمتاع ، وكذا المشركة والمكاتبة ومن بعضها حر . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الحكم الثاني : وجوب الكفارة بالعود ، والعود هو أن يمسكها في النكاح زمنا يمكنه مفارقتها فيه . وحكى الشيخ أبو حاتم القزويني عن القديم قولا : أن العود هو الوطء ، والمشهور الأول . واتفق الأصحاب على أن الكفارة تجب إذا ظاهر وعاد ، لكن هل سبب الوجوب العود فقط ، أم الظهار والعود معا ، أم الظهار فقط والعود شرط ؟ فيه أوجه . ولو مات أحد الزوجين عقيب الظهار ، أو فسخ أحدهما النكاح بسبب يقتضيه ، أو جن الزوج ، أو طلقها بائنا أو رجعيا ولم يراجع ، فلا عود ولا كفارة ، فلو كانت أمة فاشتراها متصلا بالظهار ، فليس بعائد على الأصح ، لأنه قطع النكاح . ولو اشتغل بأسباب الشراء كالمساومة وتقرير الثمن ، كان عائدا على الأصح ، وبه قال ابن الحداد ، ورجحه المتولي وغيره . قال الإمام : وهذا الخلاف إذا كان الشراء متيسرا ، فإن كان متعذرا ، فالاشتغال بتسهيله لا ينافي العود عندي .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لاعنها عقب الظهار ، نص الشافعي - رضي الله عنه - أنه ليس عائدا ، واختلفوا في النص على ثلاثة أوجه . أحدها : وبه قال ابن الحداد : والمراد به ما إذا سبق القذف والمرافعة إلى الحاكم ، أو أتى بما قبل الخامسة من كلمات اللعان ، ثم ظاهر وعقبه بالكلمة الخامسة ، وإلا فعائد ، وأصحها ، وبه قال أبو إسحاق ، وابن أبي هريرة ، وابن الوكيل : يشترط سبق القذف والمرافعة ، ولا يشترط تقدم شيء من كلمات اللعان ، بل إذا وصلها بالظهار ، لم يكن عائدا . والثالث ، وبه قال ابن سلمة ، وحكي [ ص: 271 ] عن المزني في " الجامع الكبير " : لا يشترط سبق القذف أيضا ، فلو ظاهر وقذف متصلا ، واشتغل بالمرافعة وأسباب اللعان ، لم يكن عائدا وإن بقي أياما فيه ، وشبه ذلك بما لو قال عقب الظهار : أنت طالق على ألف درهم ، فلم تقبل ، فقال عقبه : أنت طالق بلا عوض ، لا يكون عائدا لاشتغاله بسبب الفراق .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : أنت كظهر أمي ، يا زانية أنت طالق ، فوجهان ، قال ابن الحداد : هو عائد ، لأنه أمسكها حالة القذف . قال الشيخ أبو علي : هذا صحيح إن لم يلاعن بعده ، أو لاعن وشرطنا سبق القذف ، فإن لم نشرطه ، فليس بعائد . والثاني ، لا يكون عائدا ، ويكون قوله : يا زانية أنت طالق كقوله : يا زنيت أنت طالق في منع العود ، وتردد الإمام ، في أن ابن الحداد يسلم في هذه الصورة .

                                                                                                                                                                        قلت : تردد الإمام ثم قال : والأصح التسليم . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو علق طلاقها عقب الظهار . كان عائدا . ولو علق بدخوله الدار ، ثم ظاهر وبادر بالدخول عقب الظهار ، فلا عود .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        إذا ظاهر ثم طلقها رجعيا عقبه ، ثم راجعها ، فلا خلاف أنه يعود الظهار وأحكامه . ولو طلقها بائنا أو رجعيا وتركها حتى بانت ، ثم نكحها ، ففي عود الظهار الخلاف في عود الحنث ، ويجري الخلاف فيما لو كانت رقيقة فاشتراها عقب الظهار ، ثم أعتقها أو باعها ، ثم نكحها . وهل عود النكاح بعد الانفساخ بالملك كعوده بعد البينونة بالثلاث ، أم كالبينونة بدون الثلاثة ؟ وجهان سبق نظيرهما . ولو ارتد عقب الظهار ، ثم أسلم في العدة ، عاد الظهار بلا خلاف ، ثم [ ص: 272 ] هل تكون الرجعة وتجديد النكاح والإسلام بمجردها عودا ، أم لا يكون إلا أن يمسكها بعد هذه الأمور زمنا يمكنه فيه الفرقة ؟ فيه طرق .

                                                                                                                                                                        المذهب : أن الرجعة عود ، بخلاف التجديد والإسلام ، ويجري الخلاف فيما لو ظاهر من رجعية ثم راجعها ، ولا يكون عائدا قبل الرجعة بحال ، ولو ارتد أحدهما عقب الظهار قبل الدخول ، فلا عود ، وكذا لو كان بعد الدخول ، وأصر المرتد حتى انقضت العدة . ولو ظاهر كافر من كافرة ، فأسلما معا في الحال ، أو أسلم وهي كتابية ، فالنكاح دائم ، وهو عائد ، وإن أسلم وهي وثنية ، أو أسلمت وتخلف ، فإن كان قبل الدخول ، فلا عود لارتفاع النكاح ، وإن كان بعده ، فلا عود في الحال ، ولا إذا أصر ، فإن جدد النكاح بعد البينونة ، ففي عود الظهار خلاف عود الحنث . وإن أسلم المتخلف في العدة ، فإن كان هو ، فهل يكون نفس الإسلام عودا ، أم لا بد من الإمساك بعده ؟ فيه الخلاف السابق ، وإن كانت هي ، فنفس إسلامها ليس بعود في حقه ، وإنما يصير عائدا إذا أمسكها بعد علمه بإسلامها زمنا يمكنه مفارقتها .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو جن عقب الظهار ثم أفاق ، قال الشيخ أبو علي : جعل بعضهم كون الإفاقة عودا على الخلاف في الرجعة ، وهذا غلط ظاهر .

                                                                                                                                                                        قلت : نقل الإمام عن الأصحاب ، أنهم قالوا : لو جن عقب الظهار ، فليس بعائد ، لأنه لم يمسكها مختارا ، وقال صاحب " الحاوي " : لو تعقب الظهار جنون أو إغماء ، صار عائدا ، لأن الجنون لا يحرمها ، بخلاف الردة ، والقصد في العود ليس بشرط ، وهذا الذي قاله ، وإن كان قويا ، فالصحيح ما نقله الإمام . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        سبق أن تعليق الظهار صحيح ، فلو علقه ووجد المعلق عليه وأمسكها جاهلا ، [ ص: 273 ] نظر ، إن علق على فعل غيره ، فليس بعائد حتى يمسكها بعد علمه ، وإن علق على فعل نفسه ونسي ، فالمعروف في المذهب : أنه عائد ، ورأى البغوي وغيره تخريج المسألة في الطرفين على حنث الناسي والجاهل ، وهذا أحسن ، وبه قال المتولي .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا الذي قال المتولي ، أنه إن علق بفعل نفسه ، ففي مصيره عائدا الخلاف في حنث الناسي ، وإن علق بفعل غيره ، لم يصر عائدا على المذهب . وقيل : يخرج على الناسي ، قال : والفرق أنه يشتبه عليه فعل غيره ، وقلما يشتبه عليه حال نفسه ، ثم إذا علق على فعل نفسه أو غيره وفعل ، صار عند علمه بالفعل ، كأنه الآن تلفظ بالظهار ، فإن أمسكها بعده ، فعائد ، وإلا فلا . - والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية