الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الباب الثاني في حكم الردة

                                                                                                                                                                        أحكامها كثيرة متفرقة في الأبواب ، والمقصود هنا نفسه وولده وماله ، أما نفسه فمهدرة ، فيجب قتله إن لم يتب ، سواء انتقل إلى دين أهل كتاب أم لا ، حرا كان أو عبدا ، أو امرأة ، فإن تاب وعاد إلى الإسلام ، قبلت توبته وإسلامه ، سواء كان مسلما أصليا فارتد ، أو كافرا أسلم ثم ارتد ، وسواء كان الكفر الذي ارتد إليه كفرا ظاهرا ، أو غيره ككفر الباطنية ، وسواء كان ظاهر الكفر ، أو زنديقا يظهر الإسلام ، ويبطن الكفر ، وسواء تكررت منه الردة والإسلام ، أم لا ، [ ص: 76 ] فيقبل إسلام الزنديق ومن تكررت ردته وغيره ، هذا هو الصحيح المنصوص في " المختصر " وبه قطع العراقيون ، والوجه الثاني : لا يقبل إسلام الزنديق ، قال الروياني في الحلية : والعمل على هذا ، والثالث عن القفال الشاشي : أن المتناهين في الخبث ، كدعاة الباطنية ، لا تقبل توبتهم ورجوعهم إلى الإسلام ويقبل من عوامهم ، والرابع عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني : أنه إن أخذ ليقتل ، فتاب ، لم تقبل ، وإن جاء تائبا ابتداء ، وظهرت أمارات الصدق ، قبلت ، والخامس عن أبي إسحاق المروزي : لا يقبل إسلام من تكررت ردته ، وعلى الصحيح إذا تكررت ردته عزر .

                                                                                                                                                                        ويقتل المرتد بضرب الرقبة دون الإحراق وغيره ، ويتولاه الإمام أو من ولاه ، فإن قتله غيره عزر ، ويستتاب المرتد قبل قتله ، وهل الاستتابة واجبة أم مستحبة ؟ قولان ، ويقال : وجهان ، أظهرهما : واجبة ، وعلى التقديرين في قدرها قولان ، أحدهما : ثلاثة أيام ، وأظهرهما : في الحال ، فإن تاب وإلا قتل ولم يمهل ، وقيل : لا يجب الإمهال ثلاثا قطعا ، وإنما الخلاف في استحبابه ، ولا خلاف أنه لا يخلى في مدة الإمهال ، بل يحبس ، ولا خلاف أنه لو قتل قبل الاستتابة ، أو قبل مضي مدة الإمهال ، لم يجب بقتله شيء ، وإن كان القاتل مسيئا بفعله .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا وجب قتل المرتد إما في الحال ، وإما بعد الاستتابة ، فقال : عرضت لي شبهة فأزيلوها لأعود إلى ما كنت عليه ، فهل نناظره لإزالتها وجهان ، أحدهما : نعم ; لأن الحجة مقدمة على السيف ، والثاني : لا ; لأن الشبه لا تنحصر ، فيورد بعضها بإثر بعض فتطول المدة ، فحقه أن يسلم ، ثم يستكشفها من العلماء ، والأول أصح عند الغزالي ، وحكى [ ص: 77 ] الروياني الثاني عن النص ، واستبعد الخلاف ، وعن أبي إسحاق أنه لو قال : أنا جائع فأطعموني ، ثم ناظروني ، أو كان الإمام مشغولا بما هو أهم منه ، أخرناه ، ولا يجوز استرقاق المرتد بحال ، سواء فيه الرجل والمرأة .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        أما ولد المرتد ، فإن كان منفصلا ، أو انعقد قبل الردة ، فمسلم ، حتى لو ارتدت حامل ، لم يحكم بردة الولد ، فإن بلغ وأعرب بالكفر ، كان مرتدا بنفسه ، وإن حدث الولد بعد الردة ، فإن كان أحد أبويه مسلما ، فهو مسلم بلا خلاف ، وإن كانا مرتدين ، فهل هو مسلم ، أم مرتد ، أم كافر أصلي ؟ فيه ثلاثة أقوال ، أظهرها : مسلم .

                                                                                                                                                                        قلت : كذا صححه البغوي ، فتابعه الرافعي ، والصحيح أنه كافر ، وبه قطع جميع العراقيين ، نقل القاضي أبو الطيب في كتابه " المجرد " أنه لا خلاف فيه في المذهب ، وإنما الخلاف في أنه كافر أصلي أم مرتد ، والأظهر : مرتد . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فإذا قلنا : إنه مسلم ، لا يسترق بحال ، وإن مات صغيرا ورثه قرابته المسلمون ، ويجزئ عتقه عن الكفارة إن كان رقيقا ، وإن بلغ وأعرب بالكفر ، فمرتد ، وإن قلنا : كافر أصلي ، جاز استرقاقه ، قال الإمام : ويجوز عقد الجزية معه إذا بلغ وهو كالكافر الأصلي في كل معنى ، والذي قطع به البغوي وغيره ، وحكاه الروياني عن المجموع أنه لا يجوز عقد جزية له ; لأنه ليس كتابيا ، وإن قلنا : إنه مرتد ، لم يسترق بحال ، ولا يقتل حتى يبلغ فيستتاب ، فإن أصر ، قتل ، وأولاده أولاد المرتدين ، حكمهم حكم أولاد المرتدين .

                                                                                                                                                                        [ ص: 78 ] قلت : قال البغوي : لو كان أحد الأبوين مرتدا والآخر كافرا أصليا ، فإن قلنا : إذا كانا مرتدين يكون الولد مسلما ، كان هنا مسلما أيضا ، وإن قلنا : يكون هناك مرتدا أو كافرا أصليا ، كان هنا كافرا أصليا ، يقر بالجزية إن كان الأصلي ممن يقربها ، كما لو كان أحد أبويه مجوسيا والآخر وثنيا ، وإن كان الأصلي كتابيا ، كان الولد كتابيا . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        الذمي والمستأمن إذا نقض العهد ، ولحق بدار الحرب ، وترك ولده عندنا ، لا يجوز استرقاقه ، فإذا بلغ وقبل الجزية فذاك ، وإلا فلا يجبر ويلحق بالمأمن ، وفي وجه : يسترق ولده بلحوقه بدار الحرب ، وفي وجه : إن هلك هناك ، أو استرق ، استرق ولده .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        وأما ماله ، فهل يزول ملكه عنه بنفس الردة ؟ فيه أقوال ، أحدها : نعم لزوال عصمة الإسلام ، وقياسا على النكاح ، والثاني : لا ، كالزاني المحصن ، وأظهرها : موقوف ، فإن مات مرتدا ، بان زواله بالردة ، وإن أسلم ، بان أنه لم يزل ; لأن بطلان أعماله يتوقف على موته مرتدا ، فكذا ملكه ، ومنهم من قطع باستمرار ملكه ، وجعل الخلاف في أنه هل يصير بالردة محجورا عليه في التصرف ، والخلاف في زوال الملك يجري في ابتداء التملك إذا اصطاد أو احتطب ، فإن قلنا : يزول ، قال الإمام : ظاهر القياس أنه يثبت الملك لأهل الفيء فيما اصطاد واحتطب ، كما يحصل ملك السيد فيما احتطب العبد ، قال : وليكن شراؤه واتهابه ، كشراء العبد واتهابه بغير إذن السيد ، حتى يجيء الخلاف ، والذي ذكره المتولي أنه يبقى على الإباحة كما إذا اصطاد المحرم لا يملكه ، ويبقى الصيد على الإباحة ، وإن قلنا : يبقى ملك المرتد فيما احتطبه ، أو اصطاده [ ص: 79 ] ملكه كالحربي ، وإن قلنا : موقوف ، فموقوف ، فإن عاد إلى الإسلام ، بان أنه ملكه من يوم الأخذ ، وإن مات مرتدا ، قال المتولي : حكم بأن المأخوذ باق على الإباحة ، وعلى قياس ما ذكره الإمام يبين أنه لأهل الفيء ، وعلى الأقوال كلها ، تقضى من ماله ديونه التي لزمته قبل الردة ; لأنها لا تزيد على الموت ، وقد تكون نفقة الزوجة من الدين اللازم قبل الردة ، ولا تكون نفقة القريب منه لسقوطها بمضي الزمان ، وقال الإصطخري : لا تقضى ديونه على قول زوال الملك ، ويجعل المال كالتالف ، والمذهب الأول ، وأما في مدة الردة ، فينفق عليه من ماله ، وتكون نفقته كحاجة الميت إلى الكفن بعد زوال ملكه ، ونقل ابن كج عن ابن الوكيل ، أنه لا ينفق عليه على قول زوال الملك ، بل ينفق عليه مدة الاستتابة من بيت المال ، وهذا شاذ ضعيف ، وهل تلزمه نفقة زوجاته الموقوف نكاحهن ، ونفقة قريبة ، وغرامة ما يتلفه من الردة على قول زوال الملك ؟ وجهان ، قال ابن سلمة والإصطخري : لا ، واختاره المتولي ، إذ لا ملك له وأصحهما عند الجمهور : نعم ، كما أن من حفر بئر عدوان ، ومات ، وحصل بها إتلاف ، يؤخذ الضمان من تركته ، وإن زال ملكه بالموت .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا قلنا بزوال ملكه ، فأسلم ، عاد ملكه بلا خلاف ; لأن إزالة ملكه عقوبة ، فعاد بالتوبة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا قلنا بزوال ملكه لا يصح تصرفه ببيع وشراء وإعتاق ووصية وغيرها ; لأنه لا مال له ، وفي الشراء ما سبق عن الإمام ، وإن قلنا : يبقى ملكه ، منع من التصرف ، نظرا لأهل الفيء ، وهل يصير بنفس الردة محجورا عليه ، أم لا بد من ضرب القاضي ؟ وجهان ، ويقال : [ ص: 80 ] قولان ، أصحهما : الثاني ، ومنهم من قطع به ، وخص الخلاف بقولنا : ملكه موقوف ، ثم على الوجهين ، هل هو كحجر السفيه ; لأنه أشد من تضييع المال أم كحجر المفلس ; لأنه لصيانة حق غيره ؟ وجهان ، أصحهما : الثاني ، فإن قلنا : لا بد من ضرب القاضي ، ولم يضرب نفذت تصرفاته ، وإن قلنا : يحصل الحجر بلا ضرب أو بالضرب فضرب ، فإن جعلناه كحجر السفه ، لم ينفذ تصرفه في الحال في المال ، وإذا أقر بدين ، لم يقبل إقراره ، وإن جعلناه كمفلس ، فهل تبطل تصرفاته أم توقف ؟ قولان كما في المفلس ، وإقراره بالدين وبالعين كما سبق في المفلس ، وإن قلنا بالوقف ، فكل تصرف يحتمل الوقف ، كالعتق والتدبير والوصية ، موقوف أيضا ، وأما البيع والهبة والكتابة ونحوها ، فهي على قولي وقف العقود ، فعلى الجديد هي باطلة ، وعلى القديم توقف ، إن أسلم حكم بصحتها ، وإلا فلا ، ولا يصح نكاحه ولا إنكاحه ، لسقوط ولايته ، وحكى البغوي على قولنا : لا يزول ملكه وجها أنه يجوز تزويج أمته إذا لم يحجر الحاكم عليه ، كسائر تصرفه المالي ، قال : وهذا غير قوي ، وقطع المتولي وغيره بهذا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        على الأقوال كلها لا يعتق بالردة مدبر المرتد ، ولا أم ولده ، فإن مات مرتدا ، عتقت المستولدة ، وفي المدبر كلام يأتي إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        سواء في جميع ما ذكرناه التحق المرتد بدار الحرب ، أم كان في قبضة الإمام ، وعلى الأقوال يوضع مال مرتد عند عدل ، وأمته عند امرأة ثقة ; لأنا وإن قلنا ببقاء ملكه ، فقد تعلق به حق المسلمين ، فيحتاط ، ويؤجر عقاره ورقيقه وأم ولده ومدبره ، ويؤدي مكاتبه النجوم إلى [ ص: 81 ] الحاكم ، وإذا لحق بدار الحرب ورأى الحاكم الحظ في بيع الحيوان ، فعل ، وإذا ارتد وعليه دين مؤجل ، فإن قلنا بزوال ملكه ، حل الدين كما لو مات ، وإن قلنا : لا يزول ، لم يحل ، وإن قلنا بالوقف ، فعاد إلى الإسلام ، بان أنه لم يحل ، وإذا استولد جاريته ، نفذ الاستيلاء إن أبقينا ملكه ، وإن أزلناه فلا ، فإن أسلم ، فقولان ، كما لو استولد المشتري الجارية المبيعة في زمن الخيار ، وقلنا : الملك للبائع ، فتم البيع .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        إذا ارتد جماعة ، وامتنعوا بحصن وغيره ، وجب قتالهم ، ويقدم على قتال غيرهم ; لأن كفرهم أغلظ ، ولأنهم أعرف بعورات المسلمين ، ويتبع في القتال مدبرهم ، ويذفف على جريحهم ، ومن ظفرنا به ، استتبناه ، وهل عليهم ضمان ما أتلفوه من نفس ومال في القتال ؟ فيه خلاف سبق في قتال البغاة ، وإذا أتلف المرتد في غير القتال ، فعليه الضمان والقصاص ، ويقدم القصاص على قتل الردة ، فإن بادر الإمام بقتله عن الردة ، أو عفا المستحق ، أو مات المرتد ، أخذت الدية من ماله ، ولو جنى خطأ ومات ، أو قتل مرتدا ، أخذت الدية من ماله عاجلا ، ولو وطئت مرتدة بشبهة أو مكرهة ، فإن قلنا : الردة لا تزيل الملك ، فلها مهر المثل ، كما لو وطئت زانية محصنة بشبهة بخلاف ما لو وطئت حربية بشبهة ، فلا مهر ; لأن مالها غير مضمون ، فكذا منفعة بضعها ، ومال المرتدة مضمون ، وإن قلنا : يزول ملكها ، لم يجب ، كما لو وطئ ميتة على ظن أنها حية بشبهة ، وإن قلنا : الملك موقوف ، فالمهر موقوف ، ولو أكره مرتد على عمل ، فالقول في أجرة مثله كما في المهر ، ولو استأجره وسمى أجرة ، بني على صحة عقوده ، وحكم المسمى إن صححنا [ ص: 82 ] عقوده ، وأجرة المثل إن لم نصححها حكم المهر ، ولو زنى في ردته ، أو شرب ، فهل يكفي قتله ، أم يحد ثم يقتل ؟ وجهان ، أصحهما : الثاني .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية