الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الطرف الثاني في عقوبتهم : فإذا علم الإمام من رجل ، أو من جماعة أنهم يترصدون للرفقة ، ويخيفون السبيل ، ولم يأخذوا بعد مالا ، ولا قتلوا نفسا ، طلبهم ، وعزرهم بالحبس وغيره ، قال ابن سريج : والحبس في هذه الحال في غير موضعهم أولى ؛ لأنه أحوط وأبلغ في الزجر والإيحاش ، وإن أخذ قاطع من المال قدر نصاب السرقة ، قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى ، فإن عاد مرة أخرى ، قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى ، وإنما يقطع من خلاف لئلا يفوت جنس المنفعة ، وسواء كان النصاب لواحد أو لجماعة الرفقة كما سبق في السرقة ، وإن كان المأخوذ دون نصاب ، فلا قطع ، وقال ابن خيران : فيه قولان ، كالقولين في قتل قاطع الطريق ، هل تعتبر فيه الكفاءة ؛ لأنه فارق السرقة في اشتراط الحرز فكذا في النصاب ، والمذهب الأول ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " القطع في ربع دينار فصاعدا " وما ادعاه في الحرز ممنوع ، بل الذي قاله الأصحاب : أنه لو كان المال ضائعا تسير به الدواب بلا حافظ ، فلا قطع ، ولو كانت الجمال مقطورة ولم تتعهد كما شرطنا فيها ، لم يجب القطع ، وإن قتل قاطع الطريق ، قتل ، وهو قتل متحتم ليس سبيله سبيل القصاص ، وإن جمع بين القتل وأخذ المال ، قتل وصلب ، ويعتبر في المال كونه نصابا ، ويجيء فيه خلاف ابن خيران ، هذا هو المذهب ، وخرج ابن سلمة قولا : أنه تقطع يده ورجله ويقتل ويصلب ، وحكى صاحب " التقريب " [ ص: 157 ] قولا : أنه إن قتل وأخذ نصابا ، قطع وقتل ، ولم يصلب ، وإن قتل وأخذ دون نصاب ، لم يقطع بل يقتل ويصلب ، وفي كيفية القتل والصلب إذا اجتمعا قولان ، أظهرهما : يقتل ثم يصلب ، وعلى هذا كم يترك مصلوبا ؟ وجهان ، أصحهما وهو نصه : ثلاثا ، فإذا مضى الثلاث ، وسال صليبه ، وهو الودك ، أنزل ، وإلا فوجهان ، أحدهما : لا ينزل بل يترك حتى يسيل صليبه ، وأصحهما : ينزل ، ويكفي ما حصل من النكال ، ولو خيف التغير قبل الثلاث هل ينزل ؟ وجهان ، أصحهما : نعم ، وبه قال الماسرجسي وغيره ، والوجه الثاني من الأصل : يترك مصلوبا حتى يسيل صديده ويتهرأ ، ولا ينزل بحال ، والوجهان متفقان على أن يصلب على خشبة ونحوها ، وهو الصحيح ، وعن ابن أبي هريرة أنه يطرح على الأرض حتى يسيل صديده ، قال الإمام وذكر الصيدلاني : أنه يترك حتى يتساقط ، وفي القلب منه شيء ، فإني لم أره لغيره ، وإذا قلنا : ينتظر سيلان الصليب ، لم نبال نتنه ، ولفظ البغوي في حكاية وجه ابن أبي هريرة أنه يترك حتى يسيل صديده إلا أن يتأذى به الأحياء ، وما ذكره الإمام أقرب إلى سياق ذلك الوجه .

                                                                                                                                                                        والقول الثاني في كيفية القتل : أنه يصلب حيا ، ثم يقتل ، وعلى هذا كيف يقتل ، أيترك بلا طعام وشراب حتى يموت ، أم يجرح حتى يموت ، أم يترك مصلوبا ثلاثا ، ثم ينزل ويقتل ، فيه أوجه ، ويعرف بهذا أن الصلب على هذا القول يراد به صلب لا يموت منه ، وتقدم في كتاب الجنائز حكم الصلاة عليه ، وأن الخلاف السابق في إنزاله عن الخشبة بعد ثلاث وتركه جار تفريعا على القول الثاني ، أما إذا لم يأخذ مالا ولا قتل ، ولكن كثر جمع القاطعين ، وكان ردءا لهم ، وأرغب الرفقة عليه ، كما لا حد في مقدمات الزنى ، ولو أخذ بعضهم أقل من نصاب ، فكذلك الحكم إذا شرطنا النصاب ، ولا يكمل نصابه بما أخذه غيره ، وفيما يعاقب به الردء وجهان ، أصحهما : يعزره الإمام باجتهاده بالحبس [ ص: 158 ] أو التغريب أو سائر وجوه التأديب ، كسائر المعاصي . والثاني : يغربه بنفيه إلى حيث يرى ، وليختر جهة يحف بها أهل النجدة من أصحاب الإمام ، وإذا عين صوبا ، منعه العدول إلى غيره ، وعلى هذا هل يعزر في البلد المنفي إليه بضرب وحبس وغيرهما ، أم يكفي النفي ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح : أنه إلى رأي الإمام وما اقتضته المصلحة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        من اجتمع عليه قتل وصلب ، فمات ، فهل يجب صلبه ؟ وجهان ، أحدهما : نعم ؛ لأن القتل والصلب مشروعان ، تعذر أحدهما فوجب الآخر . والثاني : لا ، وبه قال الشيخ أبو حامد ، وينسب إلى النص ؛ لأنه تابع للقتل ، فسقط بسقوط المتبوع .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية